«أوروبا لم تكن أبداً أكثر رفاهية، أو أكثر أمناً، أو أكثر حرية». هذه هي العبارة الافتتاحية في استراتيجية الأمن الأوروبي التي تبناها الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2003. لو جلس الخبراء الأوروبيون لكتابة وثيقة مماثلة اليوم لما واتتهم الشجاعة لكتابة عبارة مثل هذه مرة أخرى.
صحيح أن أوروبا ما زالت تتمتع بالرفاهية، لكنها لا تشعر بالقدر نفسه من الأمن، ولا بالقدر نفسه من الرضا عن الرفاهية الأوروبية؛ أما الحرية فقد أصبحت قضية خلافية بين الأوروبيين الذين تقصد أحزابهم أشياء مختلفة عندما يتحدثون عن الحرية، حتى أن حزب الحرية - ثالث أكبر الأحزاب في النمسا - يعد في رأي اليساريين والليبراليين الأوروبيين تهديداً كبيراً للحرية.
لقد تم نشر استراتيجية الأمن الأوروبي المشار إليها في ذروة ازدهار عصر العولمة الذي تلى انتهاء الحرب الباردة، لكن بعد نشر هذه الوثيقة بخمس سنوات كان العالم يدخل في أزمة مالية طاحنة لم يتعاف منها نهائياً إلى اليوم. لم تحدث أزمة 2008 المالية في أطراف النظام الاقتصادي العالمي، لكنها حدثت في مركزه الغربي في الولايات المتحدة وأوروبا، ومن هناك امتدت لتصل إلى كل أركان المعمورة. كشفت الأزمة المالية عن هشاشة الرفاهية الأوروبية، حتى أنه في بلد مثل اليونان كان على المواطنين القبول بتخفيض الأجور، وفقدان الوظائف، ودفع المزيد من الضرائب؛ وكان الوضع قريباً من هذا في بلاد أخرى مثل البرتغال وإيطاليا، أما في عموم القارة فقد انتشر شعور باتساع نطاق التفاوت الاجتماعي بين الطبقات، وأن عوائد النمو الاقتصادي تتجه للتركز بشكل متزايد في حوزة الطبقات العليا.
الرفاهية الأوروبية التي احتفت بها استراتيجية الأمن الأوروبي عام 2003 تحولت إلى لعنة بسبب جاذبيتها لمئات الآلاف من المهاجرين الذين تدفقوا على القارة بكثافة، وبمعدلات تتجاوز قدرة مجتمعات القارة على الاستيعاب والتكيف. إنه تضافر العولمة وتفاوت مستويات المعيشة الذي أتاح لملايين الفقراء في بلاد محرومة ومضطربة في أفريقيا والشرق الأوسط وشبه القارة الهندية معرفة الكثير عن عالم الأثرياء البعيد الموجود هناك وراء البحر، وعن كيفية الوصول إليه متغلبين على قوانين الهجرة الصارمة. لقد كان لمزيج التفاوت الاجتماعي وتدفق الهجرة أثر الزلزال على المجتمعات الأوروبية والاتحاد الأوروبي، فزاد نفوذ اليمين القومي الشعبوي، وتعرض نفوذ تيار الوسط الليبرالي للتهديد، وتبدد اليقين الذي بشر به الاتحاد الأوروبي والليبرالية الاقتصادية، ولم يعد المواطن الأوروبي متأكداً من الشكل الذي سوف تكون عليه القارة والاتحاد الأوروبي بعد سنوات قليلة من الآن.
عندما تبنى الاتحاد الأوروبي استراتيجية الأمن الأوروبي في عام 2003 كان الاتحاد الأوروبي يستطيع الاعتماد بثقة على الضمانات الأمنية الأمريكية، وعلى التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا من خلال قيادتها لحلف الناتو. تمتع الاتحاد الأوروبي وقتها بقدر غير مسبوق من الأمن بسبب توسع مؤسسات الرفاهية والأمن في أوروبا الغربية ناحية الشرق، وانضمام الدول الشيوعية السابقة لعضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ونجاح أوروبا في إنهاء سلسلة الحروب التي اشتعلت في البلقان، مؤكدة على دورها كفاعل دولي في مجالات السلم والأمن، وليس فقط في مجالات الاقتصاد والمال التجارة.
لقد تغير كل هذا الآن؛ فقد أصبح لدى الأمريكيين انتقادات عدة لسياسات الأمن والدفاع الأوروبية، وباتت هناك شكوك كثيرة حول جدية الالتزام الأمريكي بحلف الناتو. أما التوسع الكبير في عضوية الاتحاد الأوروبي والناتو فقد أدى إلى إضعاف التجانس السياسي والأيديولوجي للمنظمتين، فظهرت التصدعات في التحالف الغربي. حدث هذا فيما استيقظت في روسيا إرادة التحدي، فلم تعد تستقبل المؤثرات القادمة من الغرب في استسلام، وراحت تعترض بفعالية ونجاح على أي توسعات جديدة لحلف الأطلنطي، وتستخدم قواتها المسلحة لتغيير الخرائط في المناطق الحدودية مع جورجيا وأوكرانيا، وأنشأت أداة إعلامية، سرية وعلنية، فعّالة توظفها للتدخل في شؤون دول الغرب.
خمسة عشر عاماً فقط مرت منذ نشر الاتحاد الأوروبي وثيقة الاستراتيجية، لكن هذه الفترة القصيرة كانت كافية لحدوث تغيرات كبرى في أوروبا والعالم. لقد أصبحت التغيرات تحدث بسرعة كبيرة في هذا العالم؛ ولم يعد هناك أي شيء محصناً ضد التغيير والتهديد، الأمر الذي يضع أعباء مضاعفة على عاتق مؤسسات الحكم والإدارة؛ فالتطورات المتسارعة في العالم لا تسمح بالاحتفال، فقبل أن ينتهي الحفل يمكن لتطورات جديدة معاكسة تغيير كل شيء. العالم الذي يتغير بسرعة يحتاج إلى أعين مفتوحة لا تنام، ويحتاج إلى ذكاء متقد، وسرعة فهم تلتقط الإشارات البادئة قبل أن تتحول إلى اتجاهات راسخة، ثم إلى تهديدات مدمرة. هذا هو التحدي الذي يواجه صانع القرار والدولة في عالم اليوم.
كاتب ومحلل سياسي