أربعون عاماً من الثورة الإيرانية خاضت فيها إيران كل أنواع الحرب الكلامية، فمنذ أن وصل الخميني إلى طهران بدأت حرب الكلام بإصدار التهديدات بإغلاق مضيق هرمز وشن الحرب على إسرائيل، وضرب الولايات المتحدة بالصواريخ، وفرض الإرادة الإيرانية على العالم، فعلى مدار العقود الأربعة الماضية لم تغير إيران من لهجتها ووعيدها وباتت جزءاً من نظام ارتبط بالأزمات في الشرق الأوسط، وحتى مع الحرب الكلامية لم تخرج إيران عن تقاليدها حتى مع فضيحتها الأولى (إيران كونترا) فلقد استمرت في توزيع الحرب الكلامية وأبرعت فيها.
مع إعلان الولايات المتحدة اعتبار الثاني من مايو 2019 نهاية للإعفاءات الممنوحة لعدد من الدول المستوردة للنفط الإيراني، كان لا بد للإيرانيين أن يقدموا رداً على الإجراء الأمريكي العازم على «تصفير» تصدير النفط الإيراني، فجاءت الردود في سياق الحرب الكلامية المعتادة من النظام الإيراني الذي عاد لتهديده بإغلاق مضيق هرمز، ليعود وزير الخارجية جواد ظريف ليؤكد أن إيران لن تقوم بأي خطوات تصعيدية، مع تقديمه تنازلاً بقبول التفاوض مع البيت الأبيض بشروط.
اللافت في ردة الفعل الغاضبة للقيادة الإيرانية أنها خصت السعودية والإمارات بالتهديدات الجوفاء، بعد أن أكدت الرياض وأبوظبي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب التزامهما بتعويض السوق النفطي النقص الناجم عن إنهاء الإعفاءات الأمريكية ودخول العقوبات مرحلة التنفيذ الكامل للعقوبات الاقتصادية.
في «حرب الكلام» أصدرت إيران حملة كبيرة قد تكون الأكبر في تاريخها تجاه السعودية، خاصة أنها جاءت هذه المرة من أعلى مستويات قيادة النظام الإيراني، ففي لحظة الغضب الإيراني اعتبرت قيادات إيران أن التزام السعودية والإمارات بتعويض نقص المعروض من الخام البترولي أنه اعتداء على إيران، والحقيقة أن دول أوبك بشكل عام ملتزمة بتعويض السوق النفطي حتى لا يحدث في داخل السوق خلل بين العرض والطلب، وترتفع أسعار النفط إلى مستويات عالية ستؤثر سلبياً على الاقتصاد العالمي الذي يعاني أساساً من تباطؤ في النمو.
لم تتوقف إيران في ردة فعلها عند حد التهديد، بل أن روحاني خرج بتصريحات «عجيبة» تحدث فيها أن إيران رفضت طلباً من النظام العراقي السابق بمشاركته غزو كل دول الخليج العربية، تصريح لا يمكن أن يجد طريقاً عند تاريخ العلاقة بين نظام صدام حسين والنظام الإيراني، ولا يجد حضوراً حتى بين أبناء الخليج العربي الذين يدركون أن تلك الحقبة التاريخية كانت إيران في زاويتها المعادية للعرب فهي قامت كنظام على معاداة العرب، وهذا لا ينسجم وأي تحالف مع نظام العراق السابق والحكم الخميني لإيران.
اذن في أي سياق يمكن أن توضع تصريحات روحاني، تماماً تأتي في سياق «حرب الكلام» التي اعتادها النظام الإيراني الذي يهرب من واقع أزماته إلى هذه النوعية من الحرب الفارغة المضمون، فمنذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي أبدت الولايات المتحدة صرامة غير مسبوقة في تنفيذ العقوبات لعدم انصياع النظام الإيراني بنص الاتفاق، وهي دعوة ليست بالجديدة فلقد تعهد الرئيس ترامب بهذا الإجراء منذ وصوله إلى رئاسة الولايات المتحدة.
وكانت كافة المؤشرات تؤكد عزم البيت الأبيض اتخاذ العقوبات الصارمة على إيران، إذن ليس بجديد الخطوات الأمريكية، وكان الأجدر بالنظام الإيراني أن يراجع سياساته التي أوصلته لهذه العقوبات القاسية.
النظام الإيراني الذي دخل في أصعب أزمة اقتصادية بسبب العقوبات الأمريكية يعاني من أزمة تعيده للسؤال الأساس (هل إيران ثورة أم دولة؟)، سؤال عميق للغاية يتردد على مدار أربعة عقود عملت على تأزيم علاقة إيران مع نفسها قبل محيطها ومن بعد ذلك العلاقة مع العالم، وحتى ما أصدرته السفارة الأمريكية في بغداد عن ثروة خامنئي التي تتجاوز 200 مليار دولار تأتي في سياق الفساد الضارب بأطنابه في الدولة الإيرانية، والمتستر بعباءات التدين الزائفة.
تعلم إيران أكثر من غيرها خياراتها فإما أن تقبل بالتفاوض على اتفاق نووي جديد سيضمن منع التدخل في شؤون الجوار العربي ووقف البرنامج الصاروخي الباليستي وعدم امتلاك سلاح نووي، أو أن تواجه عقوبات أكثر تشدداً، فحتى دول الاتحاد الأوروبي ستجد نفسها خارج الاتفاق النووي بسبب العقوبات الأمريكية.
يتكبد الشعب الإيراني تكلفة العنتريات والسياسات التصادمية التي يسلكها قادة النظام، فكما غرقت مدن وقرى إيران نتيجة ترهّل البنية التحتية تغرق إيران كلها في بحر لا تبدو فيه سفينة النظام قادرة معه على مواجهة التحولات الدولية والتوازنات في عالم لم يعد يحتمل خطاباً مؤدلجاً معادياً لقيم الحياة داعياً للكراهية، ومحرضاً على القتل والدمار وباعثاً للخوف، فما كان من الثورة الخمينية على مدار أربعة عقود سوى الفوضى ومحاولتها تصدير الثورة والذي وصل إلى مواجهة العالم الذي يحاول أن يجبر النظام الإيراني ليتحول إلى دولة طبيعية، ويرفع عن الإيرانيين هذه السياسات التي لن تخرج عن «حرب الكلام» والدفع المستمر إلى حافة الهاوية.