يتعلّم طلبة كليات الإعلام والصحافة في العالم أنّ الخبر الصحفي الجيد أو القصة الإخبارية السليمة بحاجة للإجابة عن أسئلة: من، متى، أين، ماذا، كيف ولماذا. فتكون الإجابات عن هذه الأسئلة هي مصدر المعرفة الصحيحة ومعيار الأداء الإعلامي الجيد.

لكن سؤال (لماذا) له أهمية خاصة في تقديري، ليس فقط في العمل الإعلامي، بل أيضاً في الحياة اليومية للناس، وتحديداً في تربية الجيل الجديد. فكل (الأسئلة) الأخرى مهمة طبعاً لكنها «أسئلة وصفية»، أي تصف ما حدث أو ما يتمّ التساؤل حول تفاصيله، فهي أسئلة «إخبارية» وليست «تحليلية». وحده سؤال (لماذا) له السمة التحليلية أو التفسيرية لما نرغب بمعرفته فعلاً.

الناس عموماً لا تتوقف عند سؤال (لماذا) كثيراً لأنّها تتوارث المفاهيم والتفسيرات، بحيث تُصبح وكأنها مسلّمات لا حاجة لإخضاعها للتحليل والتفسير.

وهذا الأمر ينطبق على شؤون دينية وثقافية واجتماعية وعلى كيفية ممارسة التعليم في المدارس، وعلى أسلوب تربية الأولاد في العائلة، حيث للأسف يتمّ أحياناً صد الأطفال والأولاد حينما يطرحون سؤال (لماذا) إذا كانت المسألة ترتبط بما هو متوارث من مفاهيم لا يجوز التشكيك بها أو طرح التساؤلات حول مدى صحتها.

إنّ تشجيع الجيل الجديد على طرح سؤال (لماذا) سيفتح أمامهم أبواب المعرفة، وسيحرّك ملكة التفكير لديهم، وسيدرّب عقولهم على التعمق في التفكير والتحليل، وعلى التمييز بين الغث والسمين مما يتوارثونه من مفاهيم ومعتقدات.

أيضاً، ربما من المهم جداً أن تُخصص حصص في المدارس الابتدائية والتكميلية والثانوية لمعلمين من الذين تجاوزوا سن الأربعين والخمسين، وتحديداً في المواد الأدبية والتربوية، وعدم الاكتفاء بمعلمين صغار السن، لأنّ ما قاله ألبرت أينشتاين يصحّ على هذا الأمر، حيث عرّف المعرفة بأنّها «الخبرة في الحياة بينما الباقي هو مجرد معلومات»!. والجيل الجديد بحاجة لاستخلاص الكثير من العِبر ممن يملكون الخبرة الحياتية، كما هو بحاجة إلى دراسة المعلومات العلمية من صغار السن من المعلمين.

الجيل الجديد بحاجة أيضاً إلى مدرّسين يميزون للطلبة بين تراث أدبي وآخر، وبين مفاهيم بالية وأخرى سليمة يجب الأخذ بها في هذا العصر. فكثير من الطلبة العرب يحفظون شعر أبي الطيب المتنبي ومنه قوله: «لا تشتري العبد إلا والعصا معه»، بينما لا يحفظ كثير منهم قول عمر بن الخطاب: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».

وما زلت أذكر أيام الطفولة في لبنان حينما كان الأطفال يتراكضون لشراء «فستق العبيد» وهو القول الخاطئ العنصري عن «الفستق السوداني» الذي كان يبيعه أشخاص من السودان من ذوي البشرة السمراء! وللأسف، تكرر أمر مشابه لهذا التوصيف العنصري حينما أقمت لفترة في ولاية ميشغان الأمريكية وكنت أسمع بعض العرب يصفون مناطق الأمريكيين الأفارقة بمناطق «العبيد»!. أليس ذلك من المفاهيم والأفكار التي يتوارثها كل جيل عما سبقه؟!

أيضاً، كم هو مهم جداً في تربية الجيل الجديد، في المنزل أو في المدرسة، تنبيه هذا الجيل إلى الفارق بين «جمود التاريخ» وبين «حركة الجغرافيا»، أي بأنّ الأمور التي حصلت في تاريخ العرب والمسلمين لا يمكن تغييرها الآن، وبأن من المهم دراسة التاريخ فقط لاستيعاب دروسه فلا يكرر الناس الأخطاء أو الحروب التي جرت في الماضي، بينما «الجغرافيا» من المهم دراستها كمادة سياسية لا النظر إليها وكأنّها غير قابلة للتغيير أو التطور.

فالجغرافيا العربية تغيرت كثيراً في القرن الماضي، حيث نشأت أوطان وحدود لم تكن قائمة قبل مائة عام مثلاً. وربما من المهم أيضاً جعل دراسة مادتي التاريخ والجغرافيا متصلة بمعلمين يفقهون مادة العلوم السياسية فلا يُدرّسون ما يجهلونه من علوم ومعرفة.

إنّ بناء مجتمعات عربية أفضل يبدأ ببناء جيل عربي جديد أفضل مما سبقه. والبداية هي في المنزل والمدرسة معاً. فالوطن السليم هو في المواطنة السليمة التي لا تميز في الحقوق والواجبات بين أتباع الوطن الواحد، والتي تُشجّع على طلب العلم والمعرفة وعلى استخدام العقل في فهم الأمور كلّها، والتي تبني المجتمع الحريص على القيم الأخلاقية بمعناها الشمولي في العلاقة مع الناس ومع الطبيعة، كما هي أيضاً في تزكية النفس وفي تهذيبها.

المفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة هي الّتي تصنع فكر الجيل الجديد وهي الّتي ترشد حركته. لذلك نرى الشّباب العربي يتمزّق بين تطرّف في السّلبيّة واللامبالاة، وبين تطرّف في أطر فئويّة بأشكال طائفيّة أو مذهبيّة بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله.

وقد أصبح فهم الدين بالنسبة لبعض الشباب العربي يعني الانغماس الكلّي في العبادات فقط وفي المظاهر الشكليّة من دون أي حركة إيجابية فاعلة بالمجتمع تدخل أصلاً في واجبات أي مؤمن. هذه الحركة الإيجابية الّتي وصفها الله تعالى بـ«العمل الصالح» الّذي هو شقيق الإيمان الديني والوجه العملي للتعبير عنه.

فالمفاهيم الّتي تحرّك الجيل العربي الجديد الآن، هي بمعظمها مفاهيم تضع اللّوم على «الآخر» في كل أسباب المشاكل والسلبيّات، ولا تحمل أي «أجندة عمل» سوى مواجهة «الآخر». وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل القريب غريباً والصّديق عدوّاً! فيصبح الهمّ الأوّل للجيل العربي الجديد هو كيفيّة التمايز عن «الآخر» لا البحث معه عن كلمة سواء.

هي فرصة مهمة، بل هي مسؤوليّة واجبة، للجيل العربي الجديد المعاصر الآن، أن يدرس ماضي أوطانه وأمته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبل جديد أفضل له وللجيل القادم.