منذ أن قال ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، جملته الشهيرة «سنراهن على الإسلام المعتدل المنفتح على الثقافات.

ولن نضيع 30 عاماً أخرى في التعامل مع الأفكار المتطرفة»، كان من الواضح أن خطوات أكثر جدية باتجاه التخلص من التيارات التي تسببت في تأخير النهوض التنموي والإنساني في شبه الجزيرة العربية، وإن امتد أثر هذه التيارات المتعصبة لما هو أبعد، وتحولت تأثيراتها لما هو أعمق من مجرد تيارات تعصبت لأفكار منغلقة، فلقد أظهرت السنوات أن تيار «الصحوة»، كان رافداً من روافد الإسلام السياسي المتطلع إلى السلطة السياسية.

واحدة من أهم التقاطعات التي أظهرتها تيارات الإسلام السياسي، أكانت سُنية أو شيعية، تتعلق بالسلطة السياسية، وهي التي عرفها سيد قطب بـ «الحاكمية»، وفصل فيها كثيراً حتى أخذ منها الخميني ما يكرس وجوده السياسي في إيران، ويشرعن دعوته في تصدير الثورة تحت عنوان الإمامة، بينما تلقفت جماعة الإخوان المسلمين الشق الآخر، ووظفته لدعوتها بإحياء الخلافة، في تقاطع لفكرة واحدة نشأت وتلقفتها أطراف اتجهت نحو تحقيق أهدافها، بركوبها صحوة الإسلام، وهو البراء منها.

برغم أن لا رابط بين الثورة الإيرانية وحادثة الحرم المكي عام 1979، إلا أن الحادثتين تؤكدان التأثر بالفكر المتطرف الذي أنتجته أدبيات الإخوان، منذ نشوئها في 1928، وهي التي نسجت هذه الأحداث في أدمغة مريديها، أو حتى الباحثين عن وصول لسلطة حكم سياسي، وإذا كانت «الصحوة» قد استطاعت التأثير في جيل كامل من الشباب المسلم، ودفعته إلى التشدد والبعد عن التسامح ووسطية الإسلام، في سبيل تحقيق مطامع سياسية بالوصول إلى السلطة في الدول التي انتشروا بها، فإنها قامت على قاعدة الإقصاء واحتكار الرأي ونبذ مخالفيها.

«الإسلام الحركي» الذي نشط في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، ارتبط بشكل مباشر بجماعة الإخوان المسلمين، وهنا، لا بد من التنويه إلى ما تمتلكه هذه الجماعة دون غيرها من جماعات الإسلام السياسي، فـ «البرغماتية» هي أساس تقوم عليه الجماعة، لذلك كانت تمتلك هذا القدر من (التقية)، ولذلك فإن جماعة الإخوان المسلمين اهتمت حتى النخاع بالتثقيف الحركي، ومساجلة الشيوعيين والقوميين، وكان ذاك في فترة دخول التليفزيونات البيوت، وانتشار أشرطة الكاسيت، فشريط الكاسيت كان له دور فعال في الإسلام الحركي، وكان يؤخذ على الإخوان المسلمين عدم اهتمامهم بالجوانب العلمية.

الشرعية وقضايا التوحيد، وإن كان هذا الكلام غير دقيق، فمن المعروف أن حسن البنا قد وضع برامج علمية وعقائدية، حيث طلب من سيد سابق أن يؤلف كتاباً في الفقه، فألف كتاباً اسماه فقه السنة، وكانت تقرأ هذه الكتب من الأسر التابعة للجماعة بعد صلاة الفجر، وفي الاجتماعات الأسبوعية، وأضيف لها لاحقاً في الستينيات، كتاب في ظلال القرآن.

هذه نمطية تغول في المجتمعات، أسهمت في أن تتمكن الصحوة من اختطاف المجتمعات العربية، وتحتكرها لتوظفها لخطابها القائم على التخويف وإخضاع العقل لإرادة الجماعة، وهذا لم يأتِ بغير الاستحواذ على الإعلام والتعليم، لما تمتلكه من قوة التأثير، ومن هنا، استطاعت الصحوة أن تستقطب الآلاف من الشباب في نطاقاتها، وتسخرهم لمعاركها، كما كانت أفغانستان واحدة من محطات غسل الأدمغة وتوظيفها لفئة خرجت أيضاً من ذات عباءة تنظيم الإخوان المسلمين، فجاء تأسيس تنظيم القاعدة، والذي خرج من كابول وقندهار، وتحول إلى الجناح المسلح للصحوة، شأنه شأن كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس.

أخطر ما ذهبت إليه الصحوة عبر ممثليها، كان الاستجابة لدعوة حسن الترابي في الخرطوم، عندما دعا قيادات الإخوان المسلمين وإيران في اجتماع المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي عام 1991، والذي انطلقت من بعده موجة العنف في السعودية خلال التسعينيات الميلادية، ودعمت العشرية السوداء في الجزائر، وخاضت في اليمن حرب صيف عام 1994، وهي الحرب الأولى التي عرفت وحشية التنظيم، من خلال فتاوى التكفير بحق المسلم، باستحلال دمه وماله وأرضه، وبعد تلك الحرب، استنسخت فتاوى التكفير، وانتشرت بين الجماعات المتطرفة.

اعتمدت الصحوة على ترهيب المجتمعات وإخضاعها لخطاب التخويف، لتتمكن من أن تسيطر عليه وتطوعه بحسب إرادتها، والمتمعن في تلك المرحلة، سيرى كيف أن نظرية (المؤامرة) كانت قادرة على اختراق صفوف الشباب واستقطابهم للانضمام إلى ما أطلق عليه الكتائب الجهادية أو الأنشطة الدعوية، والتي ضمت في ثناياها جمع التبرعات المالية، وهي التي تحملت تمويل كافة الأنشطة الإرهابية، بما أثبتته تحقيقات ما بعد هجمات سبتمبر 2001.

للصحوة بقية، فالأدمغة الملوثة من سموم الصحوة ما زالت تعمل على تشويه الإسلام، بعد أن وظفت الآيات والأحاديث النبوية لخدمة نهج الصحوة، واقع الحال لا يمكن القبول بأن طي تلك الحقبة يكون بالاعتذارات والبراءة من دماء أحلت، وتعاليم سمحاء لُطخت، فعقود من خطاب الكراهية، يتطلب شجاعة أكبر لمواجهته وتصحيح الخطاب الإسلامي ورد المظالم إلى أهلها، وهو ما جاء في قول الله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي ألباب}.