أتاحت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة الفرصة للناخبين في أوروبا للإفصاح عن رأيهم بشأن الاتحاد الأوروبي بعد فترة من الاضطراب؛ فقد مر الاتحاد الأوروبي، منذ انتخابات البرلمان الأوروبي السابقة في عام 2014، بخمس سنوات من الاختبارات الصعبة، وتطلع الجميع للكلمة الفصل تأتي بها الانتخابات الأوروبية، إلا أن الأصوات القادمة من صناديق الاقتراع الأوروبية جاءت متعارضة وفي اتجاهات مختلفة، فاتحة الباب لقراءات وتفسيرات متعددة.

النتيجة الأهم التي بينتها انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، هي أن الاتحاد الأوروبي يتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكنها بينت أيضاً أنه من المبكر جداً التبشير بقرب نهاية الاتحاد الأوروبي، ومن الخطأ التعامل معه كما لو كان قد أوشك أن يصبح مؤسسة من الماضي. الاتحاد الأوروبي هو مشروع مشترك لأحزاب يمين ويسار الوسط في القارة الأوروبية؛ وقد تعرضت هذه الأحزاب لصدمات متكررة في عدة انتخابات وطنية أوروبية خلال السنوات الخمس الماضية، وهو الاتجاه الذي تكرر في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة. أحزاب الوسط الأوروبية، اليمينية واليسارية، هي أحزاب المؤسسة الحاكمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانصراف الناخبين عنها هو نوع من التمرد على المؤسسة الحاكمة، وما أصبحت تمثله من جمود للنخب السياسية، والرموز، والأيديولوجيات، والأفكار، والخطاب السياسي، وأساليب التواصل مع الجمهور.

غير أن كتلتي أحزاب الوسط الأوروبي اليمينية واليسارية ما زالت هي الأكبر في البرلمان الأوروبي، وإن لم تعد تسيطر على أغلبية مقاعد البرلمان، فما خسرته من مقاعد كان كافياً لحرمانها من الأغلبية التي تمتعت بها منذ إنشاء البرلمان الأوروبي في عام 1979، وسوف يكون على هذه الأحزاب التحالف مع كتل أخرى لتكوين أغلبية. الأخبار الجيدة هو أن القسم الأكبر مما خسرته أحزاب الوسط ذهب إلى كتلة الأحزاب الليبرالية وكتلة أحزاب البيئة الخضراء، والكتلتان من أشد المتحمسين للاتحاد الأوروبي، وإن كانت لهما انتقادات لتكلس النخبة والسياسات وأساليب العمل السياسي تحت حكم مؤسسة الوسط الحاكمة. الأحزاب الليبرالية وأحزاب البيئة ليست غريبة عن مؤسسات الحكم والسلطة في أوروبا، فقد شاركت هذه الأحزاب في الحكم ضمن ائتلافات حاكمة في عدد من البلاد الأوروبية، الأمر الذي يسهل الوصول لتوافقات جديدة معها، ويسمح بإدخال إصلاحات تطيل عمر الاتحاد الأوروبي، وتمنحه قبولاً أكبر لدى الناخبين.

إصلاح الاتحاد الأوروبي هو إحدى الرسائل المهمة التي بعثتها انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، خاصة وأن الضغوط التي يتعرض له الاتحاد ما زالت قائمة وبشدة، فأحزاب اليمين القومي المعادية للاتحاد الأوروبي كسبت مقاعد إضافية، وإن كانت المكاسب التي حققتها أقل مما توقعه لها المراقبون، وأقل مما تمكنت من تحقيقه في الانتخابات الوطنية في عدد من البلاد الأوروبية. مع هذا فإنه من الخطأ التعامل مع أحزاب اليمين القومي على أنها موضة في طريقها للانتهاء، خاصة وأن هذه الأحزاب جاءت في المرتبة الأولى، متقدمة على كل المنافسين، في عدد من البلاد الأوروبية الرئيسية، خاصة فرنسا وبولندا.

المفارقة هي أنه بينما يتعرض الاتحاد الأوروبي للضغوط والشكوك، فقد أظهر الناخبون الأوروبيون اهتماما أكبر بالاتحاد ومؤسساته، الأمر الذي يمكن ملاحظته في نسبة التصويت المرتفعة، والتي بلغت 50.5% مقارنة بنسبة 42.5% في انتخابات البرلمان الأوروبي السابقة. لقد تراجعت معدلات التصويت في انتخابات البرلمان الأوروبي بانتظام طوال العشرين عاماً الماضية، والتي ذهب خلالها كثير من الأوروبيين لاعتبار انتخابات البرلمان الأوروبي حدثاً غير مهم لمؤسسة محدودة القيمة، اعتادوا على وصفها بورشة للكلام متعدد اللغات.

عودة معدلات التصويت في انتخابات البرلمان الأوروبي للارتفاع هو اتجاه إيجابي بكل تأكيد. مع هذا فإنه من الصعب في هذه المرحلة المبكرة استنتاج المغزى الحقيقي للارتفاع الكبير والمفاجئ في معدلات التصويت، أو التنبؤ بمآل هذا الاتجاه على المدى المتوسط والبعيد، وما إذا كان معدل التصويت سيبقى عند هذا المستوى المرتفع، أم أنه ظاهرة تحدث لمرة واحدة فقط؛ ومن المهم التأكيد على أن نسبة التصويت المرتفعة لا تعبر بالضرورة عن الرضا، ولكنها على الأرجح تعكس تحول الاتحاد الأوروبي إلى موضوع للجدل الساخن بين الأوروبيين، وتشير إلى أن مشاعر الأوروبيين تجاه الاتحاد الأوروبي قد أصبحت أكثر قوة، فهناك بين الأوروبيين من يرفضون الاتحاد الأوروبي في شكله الراهن بشدة، وهناك من يستميتون في الدفاع عنه. هذا هو الانقسام الأكبر في السياسة الأوروبية اليوم.