أشرت في مقالتي المعنونة بـ «البنوك الفكرية» بأن ثمة ما يجعل من تطور حقل البنوك الفكرية في سياقات عصر المعرفة والثورة الاقتصادية الرابعة أمراً مؤجلاً إلى ما بعد الذكاء الاصطناعي وهو العصر الاقتصادي الخامس، ويتمثل في بطء تطور حقول الملكيات الفكرية والقوانين الحامية للأفكار الابتكارية.
إن انهيار ما يسمى بالطرف الثالث في عالم المعاملات النقدية من بنوك مصرفية، مرهون بتطور عالم الحقوق الحامية للأفكار والملكيات الابتكارية، والتقنيات المستخدمة في ذلك، وهو الحقل الذي ستتجه هذه البنوك للعمل فيه بعد انتهاء عملها في سياق التعاملات المالية التقليدية، أو أنها قد اتجهت في ذلك بالفعل، وليس بالضرورة ازدهار حقل العملات الإلكترونية ليتم ذلك، فثمة ما هو متعلق بتطور تقنيات أخرى غير العملات الإلكترونية.
بعد ظهور تقنية «البلوكتشين» بمصاحبة العملة الإلكترونية البيتكوين وهو ما سمي أيضاً بالذهب الإلكتروني لم يمض غير وقت قليل حتى بدأت هذه التقنية باتخاذ مناحي واتجاهات في استخدامها غير ما عرفت مصاحبة له كأداة لتسجيل عمليات التعدين للعملات الرقمية، ومن تلك الاتجاهات الملكيات الفكرية والحقوق الابتكارية.
إن استخدام تقنية البلوكتشين في سياقات تسجيل وحفظ حقوق الملكيات الفكرية يفرض تطوراً وتحديثاً ضرورياً لحقول التشريعات والقوانين الخاصة بالملكيات الفكرية لدى الدول المنتهجة لاقتصاد يقوم على المعرفة وهذا بالضبط هو سبب ما أشرت إليه في مقال البنوك الفكرية بأنه يمثل أهم الأسباب في بطء عملية تطور البنوك في حقل الفكر والابتكار الذي يفترض عصر المعرفة تحولها إليه كما أنه السبب ذاته في بطء ازدهار حقول الابتكار والأفكار الإبداعية حيث وبدون القوانين الحامية لحقوق المبتكرين والمفكرين من الموهوبين يصبح نتاجهم ذا طابع عام أي أن نتاجهم في ظل هذا الغياب لا يمكن إلا أن يظل في سياق الملكيات العامة.
لقد كانت شركة هواوي الصينية صاحبة قصب السبق في مضمار البلوكتشين وربطه بسياقات الملكيات الفكرية وحين تقدمت عام 2016 بطلب تسجيل براءة اختراعها للسياق الجديد الذي يفترض دخول البلوكتشين في مجال غير مجال العملة الرقمية «البيتكوين»، والذي حظرت الصين كافة التعاملات لها فيه، وهو مجال الملكيات الفكرية وتسجيلها بواسطة دفتر الاستاذ، قد أوجب كما يفترض الجدية لدى الدول التي تنتهج اقتصاد المعرفة فيما يتعلق بتحديث منظومة قوانين الملكية الفكرية وتشريعاتها الخاصة بها بما يتناسب مع هذا التوجه وهذا التطور، وإن كان ما يفترض بالبنوك المطالبة به في سياقات تحولها نحو الرأسمال الفكري والعمل في حقول الابتكار فهو حث الدولة على تحديث هذه المنظومة التشريعية من القوانين الخاصة بالملكيات الفكرية وحقوق الابتكار بما يتناسب مع هذا الابتكار الجديد المرتبط بتقنية البلوكتشين والتي سوف تحميها مستقبلاً من مغبة انهيار وتلاشي عالم العملات الورقية وحقول المعاملات النقدية التقليدية بكل أشكالها التي تعمل فيها حالياً انتقالاً إلى مواكبة فعالية عصر المعرفة الذي نعيشه اليوم الذي يعتمد على الأفكار والابتكارات في أصوله ورأسماله الذي يقوم عليه اقتصاد الدولة ما
لم فإن هذا قد يتحقق فيما بعد عصر الذكاء الاصطناعي أو في العصر الخامس للاقتصاد. وللحديث بقية.