لا يوجد دليل على أن الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى مثّل بديلاً رائعاً لإيران أكثر من ذلك الغضب والإحباط الذي يشعر به قادة إيران إزاء انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، واستماتتهم من أجل إعادة العمل به، أو بصيغة معدلة منه، يصلون لها بعد مفاوضات يجرونها مع الأمريكيين. لقد استمرت المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني لعشر سنوات، فضّلت إيران خلالها تحمّل العقوبات على التخلي عن برنامجها النووي، وادعت إيران أنها قدمت تنازلات كبيرة في سبيل التوصل للاتفاق، وأن المحافظين والمتشددين في إيران يرفضون الاتفاق، وأنهم يتهمون المفاوضين الذين توصلوا إليه بالتفريط والخيانة. حسناً سنصدق كل هذا، وسنصدق أن إيران كان يمكنها مواصلة الحياة تحت العقوبات، لكن هذا يدفعنا للتساؤل عن سبب الانزعاج الإيراني الشديد لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، ولماذا لا يقبل حكام إيران ببساطة العودة إلى الوضع الذي اختاروه لبلدهم قبل توقيع الاتفاق؟
تم توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015، وطوال ثلاث سنوات جرى تطبيق الاتفاق بشكل كامل، حتى انسحبت الولايات المتحدة منه في مايو 2018، واستغرق الأمر عدة شهور أخرى حتى دخلت العقوبات الأمريكية الجديدة حيز التنفيذ، أي أن إيران كان لديها فرصة ثلاث سنوات كاملة استعادت خلالها أموالها المجمدة في الخارج، وأدخلت بعض الصيانة والتحديث التكنولوجي على منشآتها النفطية، ودخلتها بعض الاستثمارات الأجنبية، وزارها آلاف السياح. يمكن لحكام إيران اعتبار أن السنوات الثلاث السابقة كانت نوعاً من الاستراحة وفرصة لالتقاط الأنفاس، يواصلون بعدها برنامجهم النووي متحررين من قيود الاتفاق، غير أن إيران لا تتصرف بهذه الطريقة، ولا تتعامل مع الاتفاق النووي كما لو كان أمراً ثانوياً، وهي تسعى جاهدة للإبقاء على الاتفاق حياً، وحتى عندما تشرع في التخلي عن التزاماتها في المجال النووي، فإنها تفعل ذلك بهدف التهديد وممارسة الضغوط، وليس كخيار حقيقي.
لقد انسحب الأمريكيون من الاتفاق، لكن بقيت هناك خمس دول كبرى أخرى، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، متمسكين بالاتفاق. مشكلة إيران هي أن تمسك كل هذه الأطراف بالاتفاق ليس كافياً لإلغاء أثر الانسحاب الأمريكي، الأمر الذي أرغم إيران على البدء في حملة لإثارة الاضطرابات، علّها تنجح في إثارة المخاوف من تبعات الانهيار الكامل للاتفاق، ولعل ذلك يضع الولايات المتحدة تحت ضغوط تدفعها للتفاوض من أجل اتفاق جديد.
قامت إيران بمهاجمة ناقلات النفط، ثم قامت باختطاف ناقلات نفط، وأسقطت طائرة أمريكية بدون طيار، وشرعت في تنشيط برنامجها النووي فيما وراء نصوص الاتفاق مع القوى الكبرى، غير أن كل ردود الأفعال هذه لم تكن كافية لدفع الأمور في الاتجاه الذي أرادته إيران، فأسواق النفط الدولية لم تدخل في نوبة فزع بسبب تهديد إيران لحرية الملاحة في الخليج، بل إن أسعار النفط في شهر يوليو أصبحت أدنى مما كانت عليه في شهر يونيو عند بدء الأزمة. في نفس الوقت فإن الولايات المتحدة وبريطانيا تجنبتا الرد بعصبية على الاستفزازات الإيرانية، وفوتتا فرصة الدخول في أزمة دولية مسلحة حاولت إيران خلقها، وركزتا بدلاً من ذلك على تكوين تحالف دولي يوفر الحماية للسفن المبحرة في الخليج.
لإيران مشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فيما تعدم طهران وسائل الضغط على الأمريكيين، فالولايات المتحدة لم تعد تستورد نفطاً من الخليج، بل إنها لم تعد دولة مستوردة للنفط. وبينما يحاول الإيرانيون استفزاز أمريكا عبر الاعتداء على الناقلات، فقد أصابهم رد الفعل الأمريكي البارد بالصدمة، إذ عبر الرئيس الأمريكي عن عدم اهتمام الولايات المتحدة بما يحدث للملاحة في الخليج، وأن حماية حرية الملاحة هناك هي مسؤولية الدول صاحبة المصلحة. ربما أقلق هذا التصريح الأمريكي البعض، لكنه أثار في إيران انزعاجاً يفوق ما تسبب فيه في أي بلد آخر، لأنه ببساطة نقل لطهران رسالة مؤداها أن العالم قد تغير، وأن الأساليب التي كانت فعّالة في الثمانينيات، عندما شنت إيران الحرب على الناقلات، لم تعد فعّالة الآن، وأنه لم يعد بإمكان إيران أخذ إمدادات الطاقة الأمريكية رهينة لديها كما فعلت منذ وصل نظام الملالي إلى الحكم.
لإيران مشكلة مع الولايات المتحدة، ومعضلة إيران هي أنها لا تمتلك وسائل للضغط على واشنطن، فيما لا يمكنها البقاء مكتوفة اليدين، فنجدها تضرب بعشوائية، فتصيب الدول المتعاطفة معها.
إيران تعاني من ضيق نطاق الخيارات المتاحة أمامها، على الرغم من محاولتها تصوير الأمر على غير ذلك، ولا بما تحاول إيران الإيحاء به من أنها بلد استثنائي، لديه معين لا ينضب من الموارد والحيل القادرة على هزيمة حقائق ميزان القوة، فالعبرة ليست بالصخب الذي تحدثه التحركات الإيرانية، ولكن بما إذا كان لهذه التحركات فاعلية كافية لإحداث النتيجة المطلوبة، وهو ما فشلت فيه إيران حتى الآن.
* كاتب ومحلل سياسي