مع نسائم العام الدراسي الجديد تتركز الجهود والأفكار وتٌتخَذ الإجراءات لتوفير الأدوات المدرسية، والتأكد من جاهزية المدارس والجامعات.

تَوزع على الطلاب قوائم بالمشتريات اللازمة لإنجاح العملية التعليمية: كراسات، أقلام، وكتب. وتصبح الحقائب جاهزة محشوة بالزاد والزواد.

لكن ماذا عن زاد العقل وزواد الفكر؟ العالم المتجه بسرعة الصاروخ نحو عصر لا يعترف إلا بالعلم يستوجب استعدادات دراسية ذات رؤى مغايرة ومكونات لا تواكب العصر بل تسبقه بخطوات.

خطوات عدة قطعها العالم – أو بالأحرى جانب منه – صوب مقومات العصر الجديد. لكن دول العالم ليست متطابقة في الفكر، أو متشابهة في الأولويات. وفي عالمنا العربي، ما زالت الفروق هائلة والكثير من الرؤى غائبة وروح العلم والغرض منه غامضة. صحيح أن دولاً مثل مصر والإمارات والسعودية وتونس وعمان اتخذت خطوات متسارعة لتحديث ومواكبة، وربما الاستعداد مقدماً لما هو آت، لكننا ما زلنا في حاجة إلى المزيد.

في ورشة عمل في لندن حول «صحافة الطاقة والاستدامة» تحدث البروفيسور ويد أليسون (78 عاماً) أستاذ الفيزياء في جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة عن ثقافة الخوف لدى الإنسان تجاه ما يجهل أو ما يرتكز على ثقافة الخوف أو إرث الدجل أو عرف الشعوذة. لم يطالب أليسون بنبذ كل ما نحمله من عادات أو ما نؤمن به من معتقدات أو ما نتمسك به من أفكار، لكنه دعا إلى اعتناق المنهج البحثي والأسلوب النقدي.

ورغم أنه كان يتحدث عن الطاقة النووية، وما يحيطها من مخاوف وإرث كبير وعميق لا يرتبط سوى بكوارث ومصائب، إلا أن حديثه عن حتمية طرح الأسئلة والبحث عن إجابات مرتكزة على العلم والمنطق لا يقف عند حدود الطاقة النووية التي تلوح في أفق دول عدة في العالم العربي.

أستاذ الفيزياء المحنك يخرج من محدودية علمه الذي تخصص فيه، ويفتح آفاق منهجية التعليم. يشير إلى تجربة بسيطة يشهدها «مسرح واي» في مدينة ليستر البريطانية. المسرح عمره 130 عاماً، لكنه يعيد تشكيل وتحديث نفسه بين الحين والآخر بهدف مواكبة ومساعدة التغيرات في مجتمعه المحلي.

يشير أليسون إلى عرض غريب من نوعه تشهده خشبة «مسرح واي» بعد أسابيع قليلة. العرض لا يعتمد على نص مكتوب ومجهز مسبقاً، لكنه يطرح أسئلة ذات طابع علمي وبحثي على الجمهور، وغالبيته العظمى من الشباب والمراهقين بين سن 12 و25 عاماً. ويتم فتح المجال للجمهور للرد على الأسئلة دون التدخل لتوجيه دفة الإجابات في اتجاه بعينه.

وتأتي الإجابات ليتم فتحها للنقاش مجدداً. يقول أليسون إن الغرض من مثل هذا العرض ليس تلقين الجمهور إجابات معينة، أو تلقينه درساً فيما يجب أن يفكروا فيه، لكنه يفتح آفاق التفكير ويدرب الحاضرين على طريقة التفكير وليس تلقينهم المحتوى.

حتى الكتب التي يؤلفها بروفيسور الفيزياء الذي يؤمن بأن جانباً كبيراً من مستقبل الطاقة المستدامة لا يكمن في النفط أو الرياح أو الغاز، لكن في الطاقة النووية. ولأنه لا يسلم بموروثات الخوف، فقد قرر أن يؤلف سلسلة كتب للتطرق إلى ثقافة العلم في مواجهة ثقافة الخوف والخرافة. يحاول في كتبه ومحاضراته أن يفند حقيقة المخاوف المرتبطة بجوانب علمية، ومنها الطاقة النووية.

«أثر العلم في ثقافة الخوف» عنوان أحد كتبه المخصص للبحث في مصادر التهديد التي تنذر بمشكلات كبرى تواجه الإنسانية وتهدد الكوكب. يرى أن الجنس البشري في معضلة فكرية عميقة. فهو مهدد من جهة بمصاعب اقتصادية جمة وهي التي ينجم عنها في العادة قلاقل سياسية وتوترات اجتماعية، ويستيقظ كل صباح ليجد نفسه في مواجهة صارت حقيقية مع تغير المناخ.

ورغم أن البعض ما زال غير قادر على الربط بين تغير المناخ وما قد يؤدي إليه من فوضى على ظهر الكوكب، حيث المنافسة محتدمة على موارد متقلصة، وأزمة مياه تتجسد معالمها وتصحر وغيرها، إلا أن الواقع العلمي يشير إلى علاقة وثيقة. يطرح أليسون الطاقة النووية في هذا السياق باعتبارها بديلاً ومنقذاً في حال تقيدت بمعايير الأمان المعروفة.

ولدى أليسون إجابات علمية عن مخاوف تنتاب الجميع في هذا الملف: احتمالات الانفجارات والتسربات، حدوث زلازل، التخلص من النفايات، مصير المفاعلات بعد انتهاء عمرها الافتراضي وغيرها.

وبعيداً عن الطاقة النووية، وحقيقة كونها البديل الأمثل للطاقة المستدامة أم لا، فما يهم هنا هو فتح آفاق الاحتمالات المستبعدة، وإخضاعها للأسئلة العلمية والبحث عن إجابات تستند إلى العلم والمنطق لا ميراث الخوف أو ثقافة الدجل. ما يهم هو ترسيخ ثقافة العلم ومنهج البحث، وهدم خرافة تجريم السؤال وتلقين الجواب. هذا هو زاد العقل وزواد الفكر.

* كاتبة صحافية