يوماً تلو الآخر تنجلي أمام عامة البريطانيين الحقائق والمعطيات، التي أخفاها عنهم تيار الانعزاليين القوميين المتطرفين، بهدف ترجيح كفة التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت). لعل أبرز هذه الحقائق ما يتصل بالمخاوف من تدفق الهجرة والمهاجرين من شرق القارة إلى غربها، تحت حماية التعاقدات والعهود الاتحادية؛ والتي كان نصيب بريطانيا منها قد بلغ في عام الاستفتاء على البريكسيت عام 2016 زهاء 286 ألف مهاجر. قبيل الاستفتاء، شن الانعزاليون حملة فكرية وإعلامية شعواء موجزها أن هؤلاء الوافدين يزاحمون أبناء الوطن ويقاسمونهم الأرزاق ويضيقون عليهم سوق العمل. والأهم أنهم يحملون معهم ميراثاً ثقافياً مغايراً للبنية الأيديولوجية للبريطانيين الأقحاح في جزرهم العصماء.

مقابل هذه المداخلات الدعائية الممنهجة، حاولت القوى الاتحادية الدفع بإجراءات احترازية لصرف الهواجس، وكان من بينها المناداة بتعديل قواعد الهجرة واستثناء، أو حتى حرمان المهاجرين إن أمكن، من التعامل على قدم المساواة مع أبناء الوطن، بالنسبة لحقوق العمل والأجور والإقامة والتنقل والاستفادة من نظم الرعاية والإعانات الاجتماعية. غير أن تلك المحاولات باءت بالفشل، كونها تتعارض والبنود الخاصة بحرية انتقال الأفراد الموثقة في اتفاقية شينغن. وكان من رأي الشركاء الاتحاديين، ولاسيما الألمان والفرنسيين، أن للدلال والتمنع البريطانيين حدوداً لا ينبغي تجاوزها.

بمجرد أن انحازت نتيجة الاستفتاء إلى جانب مغادرة التجربة الاتحادية، فرك القوميون أيديهم وأفصحوا عن خططهم لما أسموه التصدي لسيل العمالة الأوروبية. وكشفت وثيقة مسربة أعلن عنها الموقع الإلكتروني لصحيفة الغارديان (5 /‏‏9/‏‏2017) أن لندن تعتزم بعد تنفيذ البريكسيت، فرض قيود تتضمن تطبيق نظام ثنائي للأوروبيين الوافدين، بحيث يحصل الراغبون منهم علي تصريح بالإقامة لمدة عامين. بينما يسمح لذوي المهارات العالية بالإقامة لخمسة أعوام، وسوف «تتشدد السلطات في تعريف المسموح لهم بمرافقة العمال المهاجرين، ليشمل ذلك فقط الأزواج أو الزوجات والأطفال دون الثامنة عشرة من الأعمار. على أن يستخدم الجميع جوازات السفر، وليس بطاقات الهوية الوطنية كما كان الحال إبان عضوية بريطانيا في الاتحاد».

إذا كانت هذه هي النية المبيتة تجاه ذوي الأصول الأوروبية، فكيف الحال بالتعامل مع القادمين من عوالم الجنوب؟! لكن الذي حدث أن الجدل المجتمعي التالي ليوم الاستفتاء أظهر، ضمن ما أظهر من عورات سوّق لها تيار العزلة والانكماش، أن الحاجة البريطانية لليد العاملة الأجنبية تمثل عصباً عارياً، لا يمكن تغطيته بأساليب التعصب القومي ودعاوى الاستعلاء التاريخي الثقافي. وقبل بضعة أيام، أصدر المكتب الوطني البريطاني للإحصاء توقعاته لحجم السكان للخمسة والعشرين عاماً المقبلة، وجاء فيها أن إجمالي السكان سيتزايد بين منتصف 2018 ومنتصف 2043 بمعدل 9% فقط، مقارنة بزيادة قدرها 15% خلال ربع القرن السابق. وسيقترن ذلك بتضاعف نسبة المعمرين لأكثر من 85 عاماً، وانخفاض شريحة من هم في سن العمل. وبالتداعي «سوف يتعرض التوازن الاقتصادي لخطورة شديدة، بالنظر إلى ضمور عدد المنتجين ودافعي الضرائب والتأمينات، مقابل ارتفاع الأعباء لدعم المتقاعدين والمسنين في أعلي الهرم السكاني».

يخلص المكتب الإحصائي إلى أنه تأسيساً على هذا المشهد، الذي لا راد له، تأتي الحاجة للعمالة الفتية الوافدة لصيانة معدل النمو الاقتصادي، وسد الفجوة الحتمية بين أعمار المنتجين وأعمار المتقاعدين الوطنيين. والمهم هنا أنه «حتى لو نجحت بريطانيا في النأي بنفسها عن الاتحاد الأوروبي، فإنها لن تستطيع إقامة السدود في وجه العمال الأجانب».

من المفارقات الموصولة بالتناظر البريطاني في هذا السياق، أن أحدث بيانات الأمم المتحدة تحذر من «تعرض أقاليم شرق وجنوب أوروبا لانخفاض حاد في عدد السكان، ولاسيما في شريحة سن العمل والإنتاج». والمعنى، أن القارة العجوز مقبلة في مجملها على أزمة سكانية، محورها وجود هرم سكاني مقلوب تتسع قمته من المعمرين وتضيق قاعدته من المنتجين. وقد لا يكون بعيداً ذلك الوقت الذي لا يجد فيه البريطانيون، بشقيهم الاتحادي والانعزالي، مصدراً يعتمدون عليه في نقص الأيدي العاملة، سوى لدى أهل جنوب المعمورة. ويومئذ، ربما تكون مجتمعات شرق القارة قد تحولت من مصدر للعمالة المهاجرة إلى منافس لاستقطاب المهاجرين.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني