شهدت الأسابيع القليلة الماضية عودة هيلاري كلينتون للصدارة في عناوين الصحافة الأمريكية. ورغم أن كلينتون لم تبتعد عن الحياة العامة منذ هزيمتها في انتخابات الرئاسة الماضية، إلا أن عودتها بالشكل الذي عادت به لها دلالاتها بالنسبة لمسار انتخابات الرئاسة القادمة، والتي ستجري بعد عام بالضبط من الآن.

فكلينتون وجهت اتهاماً علنياً، دون دليل، لواحدة من مرشحات حزبها للرئاسة، تولزي جبارد، حيث وصفتها بأنها المرشحة «المفضلة لدى الروس». وقد أثارت تلك التصريحات جدلاً واسعاً، ليس فقط لأن كلينتون لم تقدم دليلاً، وإنما بسبب رد فعل الأكثر قسوة من جانب جبارد.

فهي وصفت كلينتون بأنها «الملكة بين عشاق الحروب، وتجسد الفساد» السياسي. كما اعتبرتها تجسيداً «للعلل التي يعاني منها الحزب الديمقراطي».

لكن الغضب الذي أثارته تصريحات كلينتون ضد جبارد وسط الديمقراطيين التقدميين لم يكن دفاعاً عن الأخيرة بقدر ما كان غضباً ضد إعادة إنتاج كلينتون لقصة التدخل الروسي في الانتخابات الماضية. فعندما فاز ترامب بمنصب الرئاسة لم تقم كلينتون، ولا حزبها بالبحث الجدي عن الأسباب الحقيقية التي أدت للهزيمة.

فقد ركن الجميع للمسار الأسهل، أي وتطمين الذات وإلقاء اللوم على الآخرين، فاعتبروا أن هناك أسباباً عدة ليس من بينها الحملة البائسة التي أدارتها كلينتون وتسببت في خسارة الأصوات الشعبية في عدد من الولايات الحاسمة، مما أدى لفوز ترامب بأصوات المجمع الانتخابي.

قالت كلينتون، وحزبها إن سببي الهزيمة هما مساعدة الروس لترامب، وهامش الأصوات التي حصلت عليها مرشحة حزب الخضر.

لكن الصخب والتراشق بين كلينتون وجبارد لم يكن العودة الوحيدة لكلينتون لعناوين الصحف. فقد نقلت عنها الصحافة أنها «تفكر في القفز لساحة المعركة الرئاسية القادمة، في مرحلة متقدمة من السباق، لا منذ بدايته».

ثم صرح، لاحقاً فيليب رينز، أحد كبار مستشاريها، بأن كلينتون «لم تستبعد الترشح في 2020»، ثم أثنى عليها مؤكداً أنها وحدها القادرة، ليس فقط على هزيمة ترامب بل على إدارة دفة الحكم بعد رحيله من البيت الأبيض.

لكن ما إن خرجت تلك التصريحات للعلن حتى أثارت، هي الأخرى، جدلاً صاخباً، وانطلقت فوراً قيادات حزبها، خصوصاً بمجلس الشيوخ، لتحذرها من الترشح. فبعضهم وصف الأمر بأنه سيكون بمثابة «خطأ»، بينما قال البعض الآخر إن الحزب تخطاها ولم تعد مناسبة للترشح من جديد.

والحقيقة أن كلينتون ظلت دوماً، ومنذ فترة رئاسة زوجها بيل كلينتون، من أكثر الرموز السياسية جدلية، بشكل يخلق استقطاباً حاداً.

فبعض الأمريكيين يكرهونها بالمطلق، بينما يعتبرها آخرون شديدة الجاذبية كرمز سياسي. ففي فترتي رئاسة زوجها، لعبت هيلاري كلينتون دوراً سياسياً بارزاً لا علاقة له بالأدوار التي لعبتها تقليدياً قرينات الرؤساء الأمريكيين.

فهي اضطلعت مثلاً، على رأس فريق من البيت الأبيض، بإعداد مشروع قانون الرئيس للرعاية الصحية، الذي هزمه الجمهوريون بالكونجرس، ثم استخدموا الهزيمة للفوز بالأغلبية فيه، لأول مرة بعد أربعين عاماً من تولي الديمقراطيين الأغلبية.

ودور هيلاري كلينتون كان مرفوضاً من الأمريكيين المحافظين بكافة أطيافهم، الذين وجدوا في دورها السياسي خروجاً عن المتعارف عليه لدور قرينة الرئيس. ثم تولت كلينتون لاحقاً مواقع مهمة منها عضوية مجلس الشيوخ، ثم صارت وزيرة للخارجية. وأثارت مواقفها خلال تلك الفترة المزيد من الاستقطاب الحاد حولها.

فرغم أن كلينتون بدأت سياسياً على يسار الحزب الديمقراطي، إلا أنها كانت شريكة لبيل كلينتون في نقل الحزب الديمقراطي نحو اليمين، ثم تقديم تنازلات كبرى لقطاع المال الأمريكي، الأمر الذي أنتج سياسات أضرت بمصالح قطاعات جوهرية من مؤيدي الحزب من السود إلى الطبقة العاملة. وهي كوزيرة للخارجية، لم تختلف في توجهاتها عن أكثر صقور الحزب الجمهوري تشدداً.

ولعل ما يدعو للتأمل حقاً هو ذلك الإصرار من جانب هيلاري كلينتون على أن تصبح رئيسة للولايات المتحدة، رغم أنها خاضت الانتخابات الرئاسية مرتين، ولم تفلح في المرتين في تحقيق هدفها.

فهي خاضت الانتخابات التمهيدية داخل حزبها عام 2008 وهزمها باراك أوباما بسهولة، لأنها أدارت حملة سياسية تخطاها الزمن، إذ اتبعت الاستراتيجية نفسها في الألفية الثانية التي فاز على أساسها زوجها في التسعينات. ثم خاضت الرئاسة من جديد في 2012 فخسرت، ومعها الحزب، قطاعات رئيسية من ناخبيه ومن ثم منصب الرئاسة.

السؤال، في ظل الاستقطاب الحاد الذي تعيشه أمريكا، هو ما إذا كانت هيلاري كلينتون ستغامر بمستقبل حزبها وتخوض فعلاً المعركة الرئاسية القادمة؟