صعود الصين قوة عالمية بات يؤرق البعض، ويبشر الآخرين بانفراج في النظام الدولي نحو توازن القوى، بينما يحذر آخرون من أن صعود الصين سيؤدي حتمياً إلى التصادم مع القوة الأولى الولايات المتحدة.
ويعود هذا التوقع إلى ما يسمى «فخ ثوسيديدس»، الذي ينبئ بحرب لا محالة بين القوة الصاعدة والقوة المتحكمة. وقد نبه المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس إلى هذه المعضلة بوصفه مؤرخاً للحرب البلوبونيزية «إن سبب الحرب يعود إلى صعود أثينا والخوف الذي استبد بأسبرطة جعل من الحرب أمراً محتوماً».
وقد أعدت جامعة هارفارد الشهيرة مشروعاً بحثياً حول ما ستؤول إليه العلاقة بين الصين الصاعدة والولايات المتحدة المنحدرة من المركز الأول، وتشير هذه الدراسة إلى أن من بين ست عشرة حالة شهدت تنافساً بين القوى الكبرى أدت جميعها إلى الحرب ما عدا أربع.
ومن هذه الحالات هي الحالة الأولى، والتي تسابق فيها البرتغال وإسبانيا وكاد أن يدخلا في حرب في نهاية القرن الخامس عشر، ولكن تحسبهما للخسائر التي ستلحق بالطرفين وتوسط البابا بين الدولتين أنهى الخلاف دون حرب، ولكن حالات أخرى مثل فرنسا والإمبراطورية هابسبورغ في النصف الأول للقرن السادس عشر أدت إلى حرب، كما أن حالة هابسبورغ والدولة العثمانية في القرنين السادس والسابع عشر أدت إلى حرب، حتى الحرب العالمية الأولى كانت نتيجة لصعود قوة ألمانيا المنافسة لبريطانيا مدعومة بفرنسا وروسيا أدت إلى حرب، رغم العلاقة الأسرية بين العائلة المالكة في بريطانيا وألمانيا. وكذلك الحال بالنسبة للحرب العالمية الثانية، والتي كانت نتيجة لصعود ألمانيا الهتلرية ضد القوى المسيطرة بريطانيا وفرنسا وروسيا ثم الولايات المتحدة.
وقد نشر غراهام أليسون، الأستاذ بجامعة هارفارد، كتاباً فريداً بعنوان «مآلهما للحرب: هل تستطيع أمريكا والصين تفادي فخ ثوسيديدس؟» ويقول أليسون في كتابه، حيث يرى أن صعود الصين لا محالة حاصل، وأن الصين قد تفوقت على الولايات المتحدة في 20 مؤشراً للقوة مثل الاقتصاد، إنتاج الحديد والصلب، استهلاك الطاقة، مستقبل للاستثمارات الأجنبية المباشرة، التصنيع، استخدام الإنترنت، والتجارة الإلكترونية، سوق الهواتف الذكية وإلى ما ذلك من المؤشرات للقوة.
أما وجهة النظر الآسيوية ففيها اختلاف كبير عن النظرة الغربية لصعود الصين، ففي محاضرة أقيمت في أكاديمية الإمارات الدبلوماسية للباحث الاستراتيجي الأمريكي من أصل هندي، براق خنا، استعرض فيها كتابه «المستقبل آسيوي»، يقول إن فهمنا لصعود الصين محكوم بالنظرة الغربية للعلاقات الدولية، وإن أدبيات العلاقات الدولية المبنية على التاريخ الأوروبي ترى في صعود قوة تهديداً للقوة المسيطرة.
ويضيف الباحث: إن التاريخ الآسيوي يختلف عن التاريخ الأوروبي، ففي التاريخ الآسيوي لم تتسيّد قوة واحدة على المنطقة؛ وآسيا كانت دائماً متعددة الأقطاب. يقول خنا: إن قصة آسيا قصة جديدة، وهي قصة القرن الآسيوي المقبل، وإن قصة آسيا أكبر من الصين، رغم أن الصين أخذت زمام المبادرة في هذا المجال لتشييد طريق الحرير الجديد.
ويذكر الكاتب في بداية محاضرة إلى أنه أتى إلى أبوظبي من اليابان وقطع رحلته في اثنتي عشرة ساعة ونصف الساعة ليدلل على حجم القارة المهول، ويؤكد في مختصر الكتاب إلى أن هذا التجمع الآسيوي سيشمل حضارات متعددة تمتد من المملكة العربية السعودية إلى اليابان ومن روسيا إلى أستراليا، وأن آسيا عائدة إلى الاستقرار التي سبقت الاستعمار الأوروبي والسيطرة الأمريكية.
وكما يقول في كتابه: إن هذه المنطقة ستجمع خمسة مليارات نسمة من خلال المعاملات المالية، والتجارة وتشييد البنية التحتية والذي سيمثل ما يزيد على 40% من الناتج الإجمالي العالمي. وتشهد المنطقة الممتدة على طوال آسيا وعرضها نهضة استثمارية تطلق العنان لرواد الأعمال والمبتكرين.
وقد وصلت تأثيرات هذه النهضة الآسيوية إلى كل بقاع العالم وفي مجالات الاقتصاد والأعمال والثقافة. ولم يعد أحد محصناً من التأثير الآسيوي شرقاً أو غرباً.
وفي نقاش ساخن بين نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني ووزير خارجية الصين الأسبق، لي تشاو شينغ، في المنتدى الاستراتيجي، والذي عقد الأسبوع المنصرم في دبي، نفى أن تكون بلاده تسعى إلى الهيمنة كما قال تشيني. وقد اتهم نائب الرئيس الأمريكي السابق بأن هناك صعوداً لتيار قومي صيني يسعى إلى توسع نفوذ الصين.
وأردف قائلاً «لا أدري من أين أتيت بهذا الكلام عن الصين.. ربما سمعته من صحافي أمريكي متعصب، لكنك سياسي محنك ولست منحازاً. الصين لم تحاول أبداً أن تكون قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والتاريخ أفضل شاهد على ذلك».
هذان منظوران مختلفان حول صعود الصين: وجهة نظر الغرب يرى أن صعود الصين مهدد لسيطرة الغرب وتأثيره، أما وجهة النظر الآسيوية يرى أن بروز الصين وآسيا سيكون مختلفاً، وأن الآسيويين لا يسعون إلى الهيمنة، بل ربط ورفع كل العالم معها. ويبقى السؤال أين العرب من هذا السجال؟