أسئلة كثيرة تدور حول حقيقة الموقف الأمريكي مما يحدث في ليبيا، ومطالبة البعض بضرورة أن تكون هناك استراتيجية أمريكية واضحة بعد أن غابت واشنطن عن الساحة الليبية منذ مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز في 11 سبتمبر 2011 ببنغازي.
وهناك من يربط هذه الدعوات بالحديث عن نفوذ روسي متصاعد في بلاد عمر المختار، فهل الرئيس الأمريكي مستعد في هذه الأجواء المشحونة انتخابياً لمزيد من الانخراط في الساحة الليبية؟ وماذا عن سيد الكرملين، وحدود الاستعداد الروسي للتعامل مع تحديات متزايدة في جنوب المتوسط؟ وكيف يمكن تجنب السيناريو السوري في ليبيا؟
القيادة من الخلف
دائماً ما قامت الرؤية الأمريكية في ليبيا على استراتيجية «القيادة من الخلف» التي تعني أن واشنطن تحرك الخيوط بعيداً عن الأضواء، لهذا ركزت واشنطن على الانتقام من قتلة السفير كريستوفر ستيفنز، وتركت مهمة إسقاط القذافي والملف الليبي في يد حلفائها «الأطلنطيين»، حيث اضطلعت فرنسا وإيطاليا ومعهما تركيا بهدم ليبيا دون أي مساعدة في بناء المؤسسات الليبية بعد ذلك.
وهذا يتسق تماماً مع خطة الولايات المتحدة الأمريكية «للاستدارة شرقاً» والتركيز على المغارم والمغانم التي يمكن أن تأتي من شرق وجنوب شرق آسيا، لكن بعد فشل مرحلة ما بعد القذافي.
وانتشار الجماعات الإرهابية في ليبيا ومناطق الساحل والصحراء عادت القيادة الأمريكية في أفريقيا «أفريكيوم» للاهتمام بالساحة الليبية.
وخلال عامي 2017 و2018 لم يصدر أي اهتمام حقيقي من الولايات المتحدة بما يحدث في ليبيا، لكي سعي الرئيس ترامب «لتصفير» صادرات النفط الإيرانية وإضعاف صادرات فنزويلا من البترول، ونجاح الجيش الوطني الليبي في تحرير الهلال النفطي من الجماعات الإرهابية، شجع الولايات المتحدة للبحث عن شراكة أمريكية مع ليبيا تحافظ على سعر مقبول للنفط عالمياً.
وتجلى هذا الاهتمام الأمريكي الجديد بالقضية الليبية عندما اتصل الرئيس ترامب بالمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، وهو ما شكل أكبر دعم أمريكي للمؤسسات الليبية منذ 2011، وهذا الأمر لم يعجب بعض دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وخاصة في وزارة الخارجية الأمريكية التي استقبلت وفداً من حكومة السراج.
وعادت الولايات المتحدة لنظرية «الاحتواء المزدوج» بمعنى أنها تحاول أن تكون قريبة من طرفي أي أزمة، وربما ما ساعد في هذا التوجه حديث الصحافة الأمريكية عن تصاعد النفوذ الروسي في ليبيا، وأن الولايات المتحدة عليها وقف النفوذ الروسي هناك.
تركيا قوة حاجزة
ولهذا السبب يعتقد البعض أنه رغم إعلان البيض الأبيض اعتراضه على اتفاقيتي السراج وأردوغان، فإن الولايات المتحدة قد تكون شجعت تركيا لمزيد من الانخراط في ليبيا لأسباب كثيرة منها إدخال تركيا «للمستنقع الليبي» بعد أن تحولت أنقرة لـ«عبء استراتيجي» على الولايات المتحدة وحلف الناتو، خاصة بعد الخلافات التركية مع أوروبا والولايات المتحدة.
بالإضافة إلى رغبة واشنطن في تحويل تركيا «كقوة حاجزة» للنفوذ الروسي في ليبيا، وذلك لاختلاف أجندات روسيا وتركيا في ليبيا، واعتماداً على أن أيديولوجية تركيا الداعمة للجماعات المتطرفة لا يمكن أن تتسق مع الأجندة الروسية، خاصة أن التاريخ شهد 16 حرباً بين روسيا وتركيا انتصرت في جميعها الدولة الروسية، وهذه الرؤية تحقق لواشنطن إضعاف روسيا وتركيا معاً.
استبعاد السيناريو السوري
ما زالت روسيا تشعر بالمرارة نتيجة الخداع الذي تعرضت له في مجلس الأمن، عندما وافقت على الحظر الجوي على ليبيا 2012 واستخدمه حلف الناتو والولايات المتحدة في التدخل العسكري الليبي.
وترى موسكو في اتفاق السراج أردوغان بمثابة خطر على المصالح الروسية، خاصة في ظل تنافس تركيا لروسيا على الساحة السورية.
لهذا يأمل الكرملين في أن تورط تركيا في ليبيا سيضعف أنقرة في سوريا، وتعتبر روسيا نفسها أنها ركيزة الغاز في العالم، ووجودها في ليبيا لا يجعلها قريبة فقط من الغاز والنفط الليبي، بل يجعلها ضمن المحركات السياسية والاقتصادية ومبيعات السلاح في منطقة الساحل والدول الإفريقية جنوب الصحراء.
لكل هذا فإن فرضية تكرار «السيناريو السوري» بتعقيداته الدولية في ليبيا مستبعدة، خاصة أن واشنطن والأوروبيين غير مستعدين للدخول في صراعات جديدة في الشرق الأوسط، لكن الأقرب أن تحافظ الولايات المتحدة على مصالحها في ليبيا من خلال أوراقها الأوروبية والأطلنطية مع السماح لروسيا بالإبقاء على مصالح محدودة هناك.