قبل أسابيع قليلة من أول اقتراع عام في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، يبدو الحزب الديمقراطي في وضع لا يحسد عليه، قد يؤدي لإعادة انتخاب ترامب لفترة ثانية، ما لم تحدث تحولات جذرية في الرأي العام، فلا يمكن لمتابع عن كثب لما يجري الآن في أمريكا إلا أن يجد نفسه محاطاً بتغطية إعلامية لا نهائية لقضية عزل ترامب، التي تتوارى معها كل القضايا الأخرى لحد التلاشي، فالساحة السياسية في واشنطن صارت مستوعبة تماماً في تلك القضية الواحدة البعيدة عن اهتمام الكثيرين خارج العاصمة، إذ لا تشير استطلاعات الرأي العام لأي تحول يذكر في نسبة الأمريكيين الذين يدعمون إجراءات العزل أو يوافقون على إزاحة الرئيس من موقعه.
بل إن نظرة سريعة لأولويات القضايا لدى الأمريكيين، تشير بوضوح للفرص التي يضيعها الحزب الديمقراطي، الحزب المنافس للرئيس، ففي استطلاع أجرته مؤخراً مؤسسة بيو الأمريكية، تبين أن القضية ذات الأولوية القصوى لدى أغلبية الأمريكيين، على اختلاف أعمارهم وانتماءاتهم الحزبية والإثنية والعرقية هي قضية الرعاية الصحية.
تليها مباشرة قضية الإدمان، ففي سؤال عن القضايا التي تمثل «مشكلة تواجه البلاد»، قال أكثر من ثلثي المستطلعة آراؤهم إن الرعاية الصحية هي المشكلة الأولى والأخطر، والنسبة نفسها قالت الشيء نفسه بخصوص الإدمان.
ولم تختلف تلك النسبة كثيراً بين الشباب وكبار السن ولا بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل وبين من السود والبيض وذوي الأصول اللاتينية. وقد جاء في الترتيب التالي لتلك القضيتين قضايا أخرى تباينت أولوياتها بين تلك القطاعات المختلفة.
والحقيقة أن قضية الرعاية الصحية من القضايا التي لم تغب مطلقاً عن أولويات الناخبين طوال العقود الثلاثة الماضية، وهي ظلت تحتل المرتبة الأولى أو الثانية على الأكثر، حين تكون القضية الأولى هي أحوال الاقتصاد.
ولأن الحالة الاقتصادية لدى البيض تحديداً قد صارت، من وجهة نظرهم، أفضل عن ذي قبل، فإن الاقتصاد في إجمالي حسابات الرأي العام لم يحتل أولوية لدى «الأغلبية»، كون الأغلبية الأمريكية لا تزال للبيض بالمجتمع الأمريكي.
أما قضية الإدمان، فقد صارت قضية كبرى في الأعوام الأخيرة بسبب العقاقير المسكنة للألم، التي صارت توصف للمرضى وصارت من أهم عوامل الإدمان، بل وأسباب الوفاة.
وتقول الإحصاءات إن أكثر من 10 ملايين أمريكي من سن 12 عاماً قد تعرضوا لذلك الإدمان خلال العام الماضي وحده. وقد رفعت قضايا مختلفة لدى المحاكم الأمريكية تتهم شركات الأدوية الكبرى بالمسؤولية عن تلك الكارثة كونها تروج لتلك العقاقير ولا تفصح عن أضرارها.
وحين تكون قضية الرعاية الصحية على قمة الأولويات فإن ذلك يصب، تقليدياً، في مصلحة الديمقراطيين، لأن أي تحول حقيقي في مد مظلة التأمين الصحي لم يحدث إلا في عهد رؤساء ديمقراطيين طوال القرن العشرين والحادي والعشرين، فقد صدر مثلاً في عهد الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون، في منتصف ستينيات القرن العشرين، قانون أنشأ اثنين من أهم برامج الرعاية الصحية، هما برنامج الرعاية الصحية للمسنين، وبرنامج الرعاية الصحية للفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة.
والأول لا يزال من أكثر البرامج شعبية حتى إن هناك مطالب ومقترحات لمد خدماته لتشمل كل الأمريكيين، فهو برنامج فيدرالي يدفع تكلفته المواطن طوال فترة عمله ويحصل على المحصلة عند تقاعده وحتى مماته عن طريق الأموال الفيدرالية حتى صار جزءاً معتبراً من الميزانية الفيدرالية.
وقد ظل هذا التشريع لجانب قانون الضمان الاجتماعي، الذي صدر في عهد الديمقراطي روزفلت، من أهم مصادر شعبية الديمقراطيين المسؤولة عن فوزهم المتكرر بانتخابات الكونجرس على مدار أربعين عاماً.
ورغم سعي الديمقراطي كلينتون لإصدار تشريع جديد للرعاية الصحية يشمل أغلب الأمريكيين، إلا أنه فشل بسبب إصرار الجمهوريين على حرمان حزبه من تشريع جديد، يمنحهم فرصة جديدة لشعبية تمتد عقوداً إضافية وكان ذلك الفشل هو المسؤول عن فوز الجمهوريين لأول مرة منذ أربعين عاماً في انتخابات الكونجرس بمجلسيه.
ولم تمر أية تشريعات للرعاية الصحية طوال تولي الجمهوري بوش الابن إلي أن نجح أوباما في تمرير تشريع محدود، صار معروفاً باسم «أوباما كير»، لكن الرعاية الصحية لم تحظ باهتمام كبير لدى مجلس النواب الديمقراطي الحالي، الذي كانت قضية عزل ترامب على قمة أولويات عدد كبير من أعضائه، الأمر الذي يمثل غياباً واضحاً لأولويات الناخبين.
اللافت أيضاً أن أغلب القضايا التي تحظى باهتمام الناخبين صبت هي الأخرى تقليدياً في خانة الديمقراطيين، فقد حظيت قضية «القدرة على دفع نفقات التعليم الجامعي» بأولوية لدى 53% من الأمريكيين، بينما كانت قضية المناخ أولوية لدى نصف المستطلعة آراؤهم.
ومن هنا، فإذا لم تحدث تحولات جذرية لدى الرأي العام، فإن استجابة الديمقراطيين المحدودة لتلك الأولويات كلها، من شأنها أن تؤدي لعزوف الناخب الديمقراطي عن التصويت، فيحسم الناخبون الجمهوريون النتيجة لصالح ترامب وحزبه.