من احتجاجات السترات الصفراء بدءاً من نهاية عام 2018 ، التي لا تزال قائمة وإن بدرجة أقل، إلى التظاهرات والاحتجاجات والإضرابات ضد قانون المعاش الموحد في عام 2019، تواجه «العقيدة الماكرونية» تحديات كبيرة، تبدو حتى الآن مستعصية على التجاوز، رغم المحاولات والتبريرات التي تسوقها الحكومة الفرنسية الحالية، ذلك لأن عقيدة الرئيس الفرنسي ترتكز منذ البداية على تجاوز وتهميش الأحزاب السياسية التقليدية الموزعة بين اليمين واليسار وأقصى اليمين وأقصى اليسار، حيث وضعت «حركة إلى الأمام»، التي شكلها الرئيس، نفسها منذ البداية فوق الأحزاب والتيارات السياسية والأيديولوجية، التي كانت تشغل حيز الصدارة قبل صعود ماكرون إلى الرئاسة، ورغم أن هذا الارتكاز قد منح الرئيس والحركة التي شكلها جاذبية كبيرة لدى الرأي العام، خاصة بعد أن أصبح اليمين المتطرف ومرشحته للرئاسة في انتخابات 2017 في مواجهة ماكرون في الدور الثاني، فإنه فيما يبدو قد أسهم في إحداث فراغ سياسي ناجم عن تهميش الأحزاب السياسية، وضعف سيطرتها على الشارع السياسي وفقدان وضعف البوصلة السياسية، التي كانت تسهم في تأطير الحركات السياسية والوصول إلى حلول المشكلات القائمة.
من ناحية ثانية، فإن عقيدة الرئيس ماكرون قد استندت إلى ما يعرف بانفراد الخبراء وذوي المعرفة بالحكم، خاصة ذوي المعارف الاقتصادية، المنتمين للنيوليبرالية الذين يتصورون أن إدارة المجتمع يمكن أن تتم وفق نموذج إدارة الشركات، المستند إلى العقلانية النيوليبرالية، وهو التصور الذي يحاول قصر وظائف الدولة في أضيق الحدود وانسحابها التدريجي من تقديم الخدمات وتحمل المسؤولية الاجتماعية، وهو الأمر الذي أفضى إلى ضعف الخدمات المقدمة للمواطنين، ويرى البعض من المحللين أن السياسات المستندة على مثل هذه التصورات تفقد المعنى والقدرة على التأقلم مع المطالب المطروحة في الحقلين الاجتماعي والسياسي.
والحال أن سياسات الرئيس ماكرون المتعلقة بإصلاح نظام التقاعد كانت تمثل أحد الوعود التي قدمها أثناء حملته الانتخابية في عام 2017، هذا الإصلاح والقانون الذي يعبر عنه تجاهل فيما يبدو أن التنظيمات النقابية في فرنسا ذات طابع ثوري مضاد ومناهض للرأسمالية، ولهذه التنظيمات تقاليد كفاحية للدفاع عن العاملين والعمال في مواجهة الدولة الفرنسية وأصحاب الأعمال.
في ديسمبر من عام 1995، خرجت التظاهرات والاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد الذي كان قد وعد به الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، والذي عكف على إصداره آلان جوبيه رئيس الحكومة آنذاك، وباتساع هذه التظاهرات والاحتجاجات اضطرت الحكومة إلى التراجع رسمياً عن هذا الإصلاح.
هذه السابقة فيما يبدو ماثلة في أذهان المتظاهرين والمحتجين ضد مشروع القانون الجديد الذي تعتزم حكومة إدوار فيليب تقديمه، أي أنهم يتطلعون إلى تراجع الحكومة عن القانون، خاصة وأن بند التقاعد في سن الرابعة والستين لا يحظى بموافقة العاملين ولا المنظمات النقابية حتى تلك التي كانت مؤيدة لمشروع القانون وانضمت إلى المتظاهرين بعد التأكد من رفع سن التقاعد، ويرى العديد من المحللين أن رفع سن التقاعد إلى هذه السن يعني في المقام الأول عدم الأخذ في الاعتبار توقعات الأعمار والحالة الصحية للعاملين والحق في الحياة بصحة جيدة، من ناحية أخرى فإن كافة مشروعات إصلاح التقاعد في البلدان المتقدمة لا يمكنها إغفال الطلب الاجتماعي بتخفيض وقت العمل.
وفضلاً عن البند المتعلق برفع سن المعاش في القانون المقترح والذي وحّد كافة النقابات في مواجهته حتى النقابات التي كانت تتخذ موقفاً وسطاً ومعتدلاً منه، فإن القانون في نظر النقابات العمالية لم يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المهن التي تنطوي على مخاطر مرتبطة بالعمل في بعض القطاعات كالسكك الحديدية والمترو وغيرها.
الرئيس الفرنسي وعد خلال حملته الانتخابية بإجراء إصلاح عميق في بلاده، ولكن يبدو أن تمسك الفرنسيين بحقوقهم ومكتسباتهم الحمائية والاجتماعية أكثر عمقاً وتجذراً، خاصة مع فشل جولات الحوار والنقاش مع ممثلي النقابات العمالية في تحقيق الحد الأدنى الذي تطلبه الحكومة والرئيس مؤقتاً، أي عقد هدنة بتعليق الإضرابات والاحتجاجات خلال عطلة أعياد الميلاد، والعام الجديد.
ماكرون مصمم على استكمال إصلاحاته لقانون المعاش الموحّد مع وعد بتحسينه وخفض سن المعاش إلى 62 عاماً فقط، وتراجعه يعني تسليمه بالعجز عن تنفيذ خطته في الإصلاح، أما المتظاهرون فبدورهم مستمرون في الاحتجاج على القانون وعدم التفريط في مكتسباتهم عبر العقود، ويرتهن مصير هذه المواجهة بعلاقات القوى بين الأطراف مجتمعة.