عديدة تلك المفاهيم التي تصدّرت واجهة الحياة المعاصرة للمواطنين، في أنحاء المعمورة، وأصبحت محور الأحاديث العامة والخاصة للمواطنين، المختصين منهم وغير المختصين، وذلك فضلاً عن الجماعات العلمية التي تبحث في مدى صلاحية هذه المفاهيم ومحاولة كشف الغموض الذي يحيط باستخدامها، مثل الذكاء الاصطناعي أو السيادة الرقمية، والتي تعني قدرة الدولة على تنظيم وإدارة الفضاء السيبراني.

ويحظى مفهوم «الذكاء الاصطناعي» بأهمية فائقة مقارنة بغيره من هذه المفاهيم؛ بسبب شيوعه على نطاق واسع واستخدام تطبيقاته على نحو ملموس في الهواتف الجوالة ومواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية الدولية (الإنترنت)، وكذلك بسبب تطبيقاته الحالية المستخدمة في الرصد والمراقبة وتحديد الأهداف واقتحام الحياة الخاصة للمواطنين، وأيضاً تطبيقاته المستقبلية في العديد من المجالات الحيوية على الصعيد العام والخاص.

ظهر مفهوم الذكاء الاصطناعي لأول مرة في المؤتمر الذي نظمته جامعة «دارتموث» الأمريكية عام 1956 من خلال رواد مثل مارفن منسكى وجون مكارثي، وهما اللذان قدما هذا المفهوم؛ وكان يشير حينئذ إلى نشأة علم جديد هدفه تفكيك الذكاء الإنساني إلى وظائف أولية إلى الحد الذي يصبح ممكناً معه تصنيع كمبيوتر بمقدوره محاكاة هذه الوظائف.

ومنذ تلك اللحظة بحث المختصون في إمكان خلق أشياء ووظائف قريبة منا نحن البشر، ويمكنها أن تحل محلنا بل وتسيطر علينا، وقد أفضى تطور هذه البحوث والتطبيقات، كما يقول بعض المختصين، إلى أن البشر هم الذين سيطروا على الذكاء الاصطناعي، وأصبح مجرد أداة في أيدينا مثل «السكين الجيدة والحادة».

يحيط بمفهوم الذكاء الاصطناعي سوء فهم وغموض حول دلالته الفعلية، يتمثل مصدر هذا الغموض وسوء الفهم في استخدام مفهوم الذكاء عندما نسمي برنامجاً أو برمجة ذكاءً اصطناعياً، وينطوي ذلك على فهم الذكاء الإنساني واختزاله في مجرد عملية تبادل للمعلومات، من ناحية أخرى فإن هذا الافتراض يستند على بعض مقولات نظرية «السيبرناتيك» مثل القدرة على قراءة الارتباطات بين العلاقات، وكذلك القدرة على إجراء حساب متسارع لها، وهو ما يمثل الذكاء، في حين يرى بعض المختصين أن القدرة على إجراء الحسابات لا تمثل سوى جزء صغير من الذكاء.

واستناداً إلى هذا التصور تشكل لدى الناس انطباع بأن «1A» أي الذكاء الاصطناعي بمقدوره أن يعمل مثلنا، بل ويطمحون إلى قدرة هذا الذكاء على انعكاس شخصية الإنسان على الآلة، ولهذه الأسباب مجتمعة فإن الكثيرين من ذوي الاختصاص في هذا المجال وفي إطار المجموعة العلمية العالمية، يرون أن مفهوم الذكاء الاصطناعي ليس موضع إجماع أو اتفاق حتى الآن.

كثيرون هم المختصون الذين يرجعون انتشار وشيوع هذا الفهم للذكاء الاصطناعي إلى متطلبات جذب المستثمرين ومواكبة التطور، والذي تقف وراءه جهات معينة، كما أن بعض علماء الرياضيات ينكرون علاقتهم بالذكاء الاصطناعي.

وبصرف النظر عن التطبيقات المفيدة في العديد من المجالات للذكاء الاصطناعي، فإن بعض المختصين يرون أنه وعند إساءة استخدامه يتضمن قدرة على تدمير حياة البشرية والإنسانية، خاصة عندما نصر على تجنب الإشكالية الحقيقية المتمثلة في السؤال التالي «لماذا نقبل بالحياة في مجتمعات يكون فيها الإنسان عرضة للضغوط والحصار ببرمجيات تستخدم لأهداف تسويقية».

يرى بعض المتخصصين، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي، أن ظهور جوجل وأمازون وفيسبوك وغيرها من المنصات الإلكترونية على الإنترنت، لا يشير إلى حدوث تقدم اجتماعي لأن الارتكاز على مبدأ استغلال لوغاريتمات التعلم والتنبؤ يهدف إلى تعظيم الأرباح والعوائد وسجن رواد الإنترنت في إطار معرفة مشوّهة، وانتهاك الخصوصية وتحفيز انتشار وباء النرجسية لدى الشباب وتشكيل «مستعمرات رقمية» خاضعة لعمالقة الذكاء الاصطناعي الأمريكي والصيني.

القاعدة العامة التي تستند إليها هذه الانتقادات لمفهوم الذكاء الاصطناعي ومخاطره، تتلخص في قدرة الإنسان على السيطرة والتحكم في نتاجه العقلي، كما في العديد من الاكتشافات العلمية السابقة، ومن ثم فإن الذكاء الاصطناعي الذي يصعب السيطرة عليه لم يوجد بعد، وأن استخدام هذا النوع من الذكاء للغة غير مفهومة للإنسان لم يوجد بعد.

ومن ثم فإن المسؤولية تقع على عاتق المسؤولين والمختصين في تحديد العلاقة بين الإنساني والرقمي، واستخدام اللوغاريتمات لتلبية حاجات إنسانية، وليس لتكنولوجيات يصعب السيطرة عليها، ولن يكون هذا ممكناً إلا بصياغة إطار أخلاقي وانتقاء المعطيات المطلوبة والتي نحن في حاجة إليها، واعتماد نموذج الذكاء الاصطناعي «الناعم» لخدمة الإنسان واحتياجاته ويحترم المبادئ الأخلاقية التي استقرت عليها المجتمعات.