منذ عامين تقريباً، وبالتحديد في ديسمبر2017، سافرت إلى بغداد في أول زيارة لي للعراق، كانت الحكومة العراقية في ذلك الوقت يرأسها د. حيدر العبادي الذي استطاع إعادة الهدوء والاستقرار إلى حد ما، بعد أن انتهج لغة محايدة في خطابه السياسي بعكس سلفه نور المالكي.

مما أضفى حالة من الهدوء والاستقرار في الشارع العراقي، انعكس في الترحيب الواسع من كل الفئات والطوائف العراقية بهذه التطورات الإيجابية التي ترفض الطائفية.

والابتعاد عن النفوذ الإيراني بقدر الإمكان، وعودة العراق إلى محيطه العربي.رغم هذا التحسّن النسبي في الأوضاع العراقية، فقد كانت الأزمة لا تزال مكتومة بين السنة والشيعة والأكراد، تظهر أحياناً وتختفي أحياناً أخرى.

بعد ذلك أجريت الانتخابات البرلمانية في شهر مايو عام 2018، وأسفرت عن تراجع قائمة الأحزاب التي يرأسها د. حيدر العبادي، فلم يتمكن من تشكيل الحكومة، ونجح عادل عبد المهدي رئيس الحكومة المستقيل في تشكيلها بعد مفاوضات طويلة مع القوى السياسية العراقية والقبول الأمريكي والإيراني الضمني به كشخصية توافقية.

إلا أن الأوضاع لم تستقر طويلاً لحكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي.

حيث اندلعت التظاهرات الحاشدة منذ أكثر من 3 أشهر، وهي التظاهرات الشعبية التي ترفض الطائفية والمحاصصة.

وتنادي بتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط من غير الفئة السياسية الحالية، ونتيجة ضغوط الشارع العراقي، والتظاهرات العنيفة استجاب رئيس الوزراء لمطالب الشارع، وقدم استقالته لكنه لايزال يقوم بتسيير الأعمال نتيجة عدم التوافق على الحكومة الجديدة.

الشارع العراقي سئم الطائفية، والمحاصصة، ويرفض أن تتحول الأراضي العراقية إلى مناطق لاقتسام النفوذ بين أمريكا من جهة، وإيران من جهة أخرى.

تحول العراق إلى منطقة نفوذ مشتركة بين الأمريكان الذين احتفظوا بقواعد عسكرية ضخمة هناك، وبأكبر سفارة أمريكية في العالم، وبين النفوذ الإيراني الذي سمحت له أمريكا بالتمدد والانتشار وتفاعلت معه وصمتت عليه.

تحول العراق إلى كيانات ومناطق نفوذ مذهبية وطائفية ما بين الشيعة والسنة والأكراد، وحاول الأكراد الانفصال عن العراق، وتنظيم استفتاء شعبي داخل كردستان العراق، إلا أن الحكومة المركزية تدخلت في اللحظات الأخيرة، وأجهضت ذلك الاستفتاء.

منذ نحو 3 أشهر اندلعت التظاهرات في شوارع بغداد تطالب برحيل الفاسدين، وترفض المحاصصة والطائفية، ومع سقوط القتلى والضحايا، تحول الحراك الشعبي إلى مواجهات غاضبة.

وانتهى الأمر بإجبار الحكومة العراقية التي يرأسها عبد المهدي على الاستقالة، إلا أنه حتى الآن لم يتم تعيين حكومة جديدة بسبب الخلافات والانقسامات التي دفعت رئيس الدولة إلى التهديد بالاستقالة هو الآخر، ما لم تتوافق القوى السياسية والحزبية هناك على تلبية مطالب المتظاهرين.

الأمر المؤكد أن التدخلات الأجنبية السافرة هي السبب في تدهور أحوال العراق، فقد تحول العراق منذ عام 2003 إلى منطقة حروب بالوكالة، أو نفوذ بالوكالة.

مصلحة إيران تمثلت في تمدد نفوذها حتى أصبحت طهران تحكم بنفوذها أربع عواصم عربية، والبداية كانت من بغداد ثم تمددت إلى الدول الثلاث الأخرى لبنان وسوريا واليمن.

انسحاب الرئيس الأمريكي ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وفرض عقوبات أمريكية على طهران كان البداية لانتهاء شهر العسل الأمريكي الإيراني، وتحول منطقة النفوذ المشتركة إلى منطقة للحروب والصراعات بالوكالة.

مناطق النفوذ المشتركة تحولت إلى مناطق للصراع وتصفية الحسابات بغض النظر عن مصلحة الشعب العراقي، وسيادة أراضيه.

العراقيون خرجوا في مدن عراقية عدة منددين بأمريكا وإيران معاً، وهتفوا مطالبين بإبعاد وطنهم عن الصراع الأمريكي الإيراني، خشية التصعيد الذي قد يؤدي إلى وقوع المزيد من الضحايا من أبناء الشعب العراقي.

استمرار التظاهرات العراقية، يؤكد أن العراقيين مصرون على إنهاء عصر النفوذ على الأراضي العراقية، وترك العراق لشعبه، لكن هذا السيناريو محفوف بالمعادلات الصعبة.

وأعتقد أن الشعب العراقي سوف يكون صاحب القول الفصل في هذا السيناريو، إذا استمر في ضغوطه رافضاً أن تتحول أرضه إلى ساحة حرب بالوكالة أو تقسيم للنفوذ مرة أخرى، حتى يعود العراق لشعبه كما كان قبل عام 2003، بعيداً عن الطائفية والمحاصصة والتدخلات الأجنبية... أمريكية كانت أم إيرانية.

* رئيس مجلس إدارة «الأهرام» المصرية