على الرغم من خطورة ما تضمنته «رؤية ترامب لتحسين حياة الفلسطينيين والإسرائيليين» حول عدم قابلية القدس للتقسيم وإبقائها موحدة عاصمة لإسرائيل، وسيادة هذه الأخيرة على وادي الأردن والمستوطنات والمسجد الأقصى والإبقاء على الوضع القائم فيه، أي السيطرة الإسرائيلية، والسماح لمعتنقي الديانات الأخرى بأداء صلواتهم فيه، وما دون ذلك من بنود، إلا أن المبادئ التي ارتكزت عليها الوثيقة ووجهت روحها وبنودها وصياغتها ومثلت مرجعية متكاملة لمن قاموا بوضعها؛ مرجعية بديلة للقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة، هذه المبادئ وتلك المرجعية لا تقل خطورة عن بنودها، ولا شك في أن كشف هذه المبادئ للعيان وكشف الغموض عنها يمثل ضرورة للحكم على هذه الوثيقة.
في مقدمة هذه المبادئ - من خلال الاطلاع على أهم ما جاء في الوثيقة - يمكن أن نضع مبدأ تبني الرواية الصهيونية للصراع العربي الإسرائيلي في المكانة الأولى يتمثل ذلك في تبرير «الرؤية» للاستيلاء الإسرائيلي على الأرض خاصة القدس، والتي تشير الوثيقة إلى أنها ذكرت في التوراة، وأنها، أي القدس، أصبحت المركز السياسي للشعب اليهودي، عندما توحدت القبائل الاثنتي عشرة في إسرائيل، وهو ما جعل من المدينة العاصمة والمركز الروحي للشعب اليهودي في المملكة التي ظلت قائمة منذ ما يقرب 3000 عام، وبصرف النظر عن الحقيقة التاريخية ونصيبها من الواقع أو الوهم، فإن مفهوم المركز السياسي والمركز الروحي أو العاصمة لم يكن قد تبلور حينئذ لدى هذه القبائل المهاجرة.
بل ظهرت هذه المفردات في وثائق صهيونية مع ظهور الصهيونية كحركة سياسية في نهاية القرن الثامن عشر، وبذلك تقر هذه «الرؤية» مفهوم الحقوق التاريخية للشعب اليهودي في أرض فلسطين، ويصبح حق العودة لهم مشروعاً، وهذا المفهوم يناقض على طول الخط المفاهيم القانونية والسياسية المعروفة الآن والمضمنة في المواثيق الدولية المؤسسة للنظام الدولي الحديث، لأنه لا يمكن المطالبة بحقوق على غرار هذا الحق منذ آلاف السنين.
أما المبدأ الثاني المضمن في الوثيقة فيتمثل في استلهام رؤية اليمين التصحيحي في الحركة الصهيونية ممثلة في جابوتنسكي وبيجين وشامير ونتانياهو، ويمكن تلمس عناصر معينة من رؤية بعض هؤلاء في «الرؤية» الأمريكية، ذلك أنها تشير إلى أن إسرائيل قد أعادت 88 % من الأراضي التي استولت عليها في حرب 1967، والذي تمثل في إعادة سيناء إلى مصر، وتكون قد نفذت جزءاً كبيراً من التزاماتها بموجب القرار 242، واحتفظت فقط بالجولان والضفة وغزة وهذه الأراضي لا تعادل إلا 12 %، وهو ما كان يردده دائماً إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، كما أن الرؤية استندت على مبدأ السلام الاقتصادي والإقليمي، والذي كان رئيس وزراء تسيير الأعمال بنيامين نتانياهو قد قدمه في فترة سابقة على اعتبار أن القضية الفلسطينية تتلخص من وجهة نظره في تحسين مستوى معيشة الشعب الفلسطيني وليس في تقرير المصير أو الدولة أو التحرر من الاحتلال.
أما المبدأ الثالث فيتعلق بتعويض اللاجئين اليهود من دول شمال أفريقيا ومصر والذين تسبب الصراع في لجوئهم إلى إسرائيل، وقامت هذه الأخيرة بدمجهم فيها وخصصت لهم مبالغ مالية ضخمة، وينبغي أن تحصل في المقابل على تعويضات مناسبة، وسيتم النظر في المستقبل في اعتماد آلية دولية مناسبة لهذا التعويض، في المقابل أنكرت الوثيقة حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وكأن الوثيقة تأخذ على الدول العربية التقصير في دمج هؤلاء اللاجئين، وتحملهم المسؤولية عن ذلك، واقتصرت عودة بعض اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية بموافقة إسرائيلية وبعض الدول الإسلامية التي تقبل بذلك في حدود 5 آلاف لاجئ على مدار عشر سنوات.
أما المبدأ الرابع فيتمثل في تأكيد الحق في الاستعمار والعودة إلى اعتماد حق الفتح والغزو واستخدام القوة في الحصول على مكاسب إقليمية، وهي حقوق عفى عليها الزمن مع تبلور قواعد القانون الدولي الحديث في السيادة وعدم جواز ضم الأراضي بالقوة وحق تقرير المصير الوطني والقومي، وذلك يعني أن هذه الرؤية أدارت الظهر لكل قواعد القانون الدولي والقرارات الدولية التي تجرم استخدام القوة وعدم شرعية ما يترتب عليها من نتائج وتأسيس شرعية جديدة تستند إلى القوة وتنحي الحقوق الشرعية جانباً.
وأخيراً وليس آخراً، فإن الرؤية قد تضمنت مفهوماً تزعم أنه جديد في السيادة يتعلق فقط بالفلسطينيين، فهي أي السيادة مفهوم تطور عبر الزمن خاصة مع الاعتماد المتبادل والتفاعل مع الدول الأخرى واعتماد الاتفاقيات وأن السيادة بالمفهوم الثابت والمعروف تعتبر من وجهة نظر هذه الرؤية مجرد حجر عثرة وغير مهم، وأن الاعتبارات العملية ذات الصلة بالأمن والازدهار هي التي تشغل الأهمية، أما السيادة على الأرض فهي «موضة قديمة».
أما عندما يتعلق الأمر بالسيادة الإسرائيلية على وادي الأردن وشمال البحر الميت والمستوطنات، فهي تقع وتخضع للسيادة الإسرائيلية دون تحريف أو مراوغة مفهومية أو تعريف جديد مراوغ للسيادة كما في الحالة الفلسطينية.