ربما تكون الحسنة الوحيدة لتغيّب إثيوبيا عن الجولة الأخيرة للمفاوضات في واشنطن هي أنها أسقطت «ورقة التوت» عن «المراوغة» الإثيوبية أمام العالم، التي كانت إثيوبيا تحاول أن تخفيها في كل مرة بمحاولة تطويل أمد المفاوضات، والتصريح بمعسول الكلام في وقت كانت فيه تبطن غير ما تظهر، وتعلن في جلسات المفاوضات، وأمام وسائل الإعلام شيئاً وتفعل عكسه تماماً على أرض الواقع.

غياب إثيوبيا عن جولة المفاوضات الأخيرة لم يكن له ما يبرره على الإطلاق، إذا كانت إثيوبيا فعلاً لا تريد الإضرار بدولتي المصب (مصر والسودان)، وتريدـ كما تعلن دائماًـ أن يتحول سد النهضة إلى فرصة للمزيد من التعاون والتكامل بين الدول الثلاث.

أعتقد أن الحالة هذه المرة مختلفة، لأن مصر ومنذ 5 سنوات، وبالتحديد في 23 مارس 2015، نجحت في أن تضع حداً لحالة العبث التي كانت سائدة في المفاوضات قبل هذا التاريخ، بعد أن تم توقيع اتفاق «إعلان المبادئ» في الخرطوم، بحضور زعماء الدول الثلاث، وتوقيعهم على تلك الاتفاقية الملزمة للأطراف الثلاثة.

تضمن «إعلان المبادئ» نصوصاً واضحة ومحددة ملزمة للدول الثلاث (إثيوبيا ومصر والسودان)، وغياب إثيوبيا عن جولة المفاوضات الأخيرة في واشنطن كشف عن مسلسل ارتكابها العديد من المخالفات المتعلقة باتفاق «إعلان المبادئ» منذ توقيعها حتى الآن، لعل أبرزها ما يلي:

أولاً: مخالفة المبدأ الثالث من اتفاق «إعلان المبادئ»، الذي ينص على مبدأ عدم التسبب في ضرر ذي شأن، وتأكيد رفض حدوث أي ضرر ذي شأن لأي دولة.

ثانياً: مخالفة المبدأ الرابع من الاتفاق المتعلق بالاستخدام المنصف والعادل للموارد المائية، وتأكيد ضمان تحقيق ذلك.

هذا المبدأ يصب في مصلحة مصر، لأنها الدولة الوحيدة من الدول الثلاث التي تعاني «الشح المائي»، وليس لها مورد آخر سوى حصتها من مياه النيل.

ثالثاً: مخالفة المبدأ الخامس المتعلق بالتعاون في الملء الأول وإدارة السد، وهذا هو المبدأ الذي تحاول أن تتنصل منه إثيوبيا الآن بدون مبرر، برغم أنها وافقت عليه في «إعلان المبادئ».

هذا المبدأ واضح وصريح في ضرورة تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، والالتزام بتلك التوصيات خلال المراحل المختلفة للمشروع. للأسف الشديد، حاولت إثيوبيا طيلة الفترة الماضية عرقلة عمل المكاتب الاستشارية الدولية، وعدم تمكين الجهات الدولية مثل البنك الدولي والجهات الأخرى المعنية من القيام بعمل الدراسات التي نص عليها المبدأ الخامس من «إعلان المبادئ»، بما يؤكد سوء نية الجانب الإثيوبي، وعدم تعاونه في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.

في ظل هذا التعنت الإثيوبي و«المراوغة» المتعمدة والخروقات المتعددة من الجانب الإثيوبي لاتفاق «إعلان المبادئ» لم يكن أمام مصر سوى اللجوء إلى المبدأ العاشر من الاتفاق نفسه، وهو مبدأ التسوية السلمية للمنازعات حيث أشار هذا المبدأ إلا أنه إذا لم ينجح الأطراف الثلاثة في حل الخلاف، من خلال المشاورات أو المفاوضات، يمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق أو الوساطة، وهو ما طالبت به مصر وتحقق بالفعل، حينما وافقت الأطراف الثلاثة (إثيوبيا ومصر والسودان) على رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والبنك الدولي المفاوضات، والوساطة بينهم.

ذهبت إثيوبيا إلى الوساطة الدولية وقبلت بها، لكنها تريد استمرار نهجها في المراوغة والتعنت، وحينما سارت المفاوضات بوتيرة جدية، وأوشكت على الانتهاء، تحاول إثيوبيا أن تلجأ إلى طريقتها نفسها، لتعود مرة أخرى إلى نقطة الصفر، غير أن هذه المرة الحالة مختلفة، لأن هناك وسيطاً دولياً تدخل بموافقة الأطراف الثلاثة، وانطلقت المفاوضات بوجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وممثل البنك الدولي، والدول الثلاث، وتمت ترجمة هذه المفاوضات إلى اتفاق شبه نهائي، وكان من المفترض أن يتم توقيعه في الجولة قبل الماضية.

أعتقد أن الكرة الآن في ملعب الجانب الإثيوبي إذا كان جاداً في إنهاء حالة الغموض والمراوغة السائدة منذ فترة، ليؤكد احترامه اتفاق إعلان المبادئ، الذي تم توقيعه من الدول الثلاث، وتحول إلى وثيقة دولية ملزمة، تضمن حق إثيوبيا في التنمية، لكن في الوقت نفسه عدم الإضرار بحق الشعب المصري في الحياة.

* رئيس مجلس إدارة «الأهرام»