سوف نكتشف لاحقاً، أن دروس انتشار فيروس «كورونا» وتداعياته المختلفة، لا تعد ولا تحصى، وليست كلها سلبية كما يخيل لبعضنا للوهلة الأولى، والشاطر من يستفيد منها.

حينما اضطرت العديد من بلدان العالم إلى فرض حظر التجول الجزئي أو الشامل، وقبله إغلاق حدودها البرية والجوية وأحياناً البحرية، اكتشف الناس أن غالبية السلع التي يحتاجونها ليست موجودة، لأنها إما مستوردة من الخارج أو موجودة في أطراف بعيدة سواء في العاصمة أو مدن بعيدة، وأنه يصعب وصولها إليهم، لتوقف المواصلات وإغلاق الطرق.

هذا يعني درساً أساسياً أنه حينما تعتمد على الخارج وعلى الآخرين، في كل ما تستهلك، فسوف تدفع ثمناً باهظاً، حتى لو كنت تملك الأموال الكافية مقابل هذه السلع والبضائع والمستلزمات.بعض المواطنين العرب كان معهم أموال في أيديهم،.

وذهبوا إلى الصيدليات لشراء الكمامات والكحول الإيثيلي وسائر أنواع المعقمات، لكنهم لم يجدوها، وبعضهم دفع أسعاراً تزيد ألفاً في المئة من أجل الحصول عليها. والسبب الرئيسي في ذلك أننا لا ننتج غالبية هذه المستلزمات، وبعض ما ننتجه لا يكفي للاستهلاك المحلي.

عدد كبير من العرب أيضاً يريد إجراء الكشف على نفسه للاطمئنان بأنه ليس مصاباً بفيروس «كورونا» أو حاملاً له، لكن أجهزة الكشف قليلة جداً في بعض البلدان، وقد لا تكفي المصابين.

وهذه للموضوعية ليست مشكلة دولة واحدة فقط، بل تكررت في عدد كبير من دول العالم الكبرى ومنها أمريكا، ولذلك رأينا رئيسها دونالد ترامب يقوم بتفعيل قانون الإجراءات الدفاعية الذي يعطيه حق إلزام شركات القطاع الخاص بإنتاج ما تريده الدولة مثل أجهزة الفحص والكشف عن الفيروس، خصوصاً بعد أن قال حاكم نيويورك إنه يحتاج 30 ألف جهاز ولا يملك منها سوى خمسة آلاف.

هناك سلع وبضائع موجودة في دول كثيرة قريبة وبعيدة، لكن وبسبب تداعيات الفيروس فإن حركة التجارة تعطلت أو تأثرت أو انخفضت، وبالتالي لم تستطع الدول الحصول على هذه السلع، رغم أن الدول تملك ثمنها. وهذا المثال يعطينا كعرب درساً بليغاً في ضرورة الاعتماد على النفس.

حينما جد الجد، فإن بعض الدول رفعت شعار إغلاق الحدود وعدم السماح للآخرين من أي دولة بالدخول، لكن ذلك أدى أيضاً إلى توقف التجارة الخارجية.

الدرس الأبرز هنا أن دولاً أخرى قررت وقف تصدير سلع معينة مثل المعدات والمستلزمات والمواد الطبية والصحية، لأنها تريد أن تعالج مواطنيها أولاً، وحينما يفيض شيء، فيمكن تصديره، كما تفعل الصين وروسيا الآن مع بعض دول أوروبا خصوصاً إيطاليا.

ألمانيا أوقفت تصدير مواد طبية وكذلك فعلت بلدان أوروبية أخرى.

في هذه الحالة فإن كل دولة يفترض أن ترفع شعار «ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولَ أنت جميع أمرك».

من المنطقي أنه يصعب على أي دولة أن تعتمد على نفسها في شيء، لكن تجربة «كورونا» قاسية وصعبة وتقول لنا إنه يفترض أن تسعى كل دولة لضمان إنتاج السلع والبضائع والحاجات الأساسية، حتى لا تجد نفسها تحت رحمة دول أخرى أو ظروف غير طبيعية مثل «كورونا»، أو كوارث طبيعية مثل الزلازل والبراكين وما قد ينتج عن التغيرات المناخية المتلاحقة.

العالم متداخل وثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، جعلت العالم غرفة صغيرة جداً وليس قرية كما كنا نعتقد. لكن إحدى نتائج تداعيات فيروس «كورونا» أنه أعطى قبلة الحياة مرة أخرى إلى الدولة القومية القوية، كما أنه أعاد الاعتبار لدور الحكومات.

فحينما أغلقت كل الدول حدودها البرية والجوية، فقد كانت ترفع عملياً شعار «نحن أولاً»، في هذه اللحظة تعرضت العولمة لضربة مؤلمة. بل إن هناك من يقول إن ذلك وجه ضربة شبه قاضية إلى الاتحاد الأوروبي، وتعطلت اتفاقية شينغن تماماً مع إغلاق الحدود ووقف السفر والتحركات. وسمعنا أصواتاً عالية في إيطاليا تطالب بالانسحاب من الاتحاد الذي تخلى عنها ولم تجد دعماً إلا من الصين وروسيا، قبل أن تتحرك بعض دول الاتحاد لنجدة إيطاليا.

تجربة «كورونا» القاسية تجبرنا ليس فقط على ضرورة الاعتماد على إنتاجنا الوطني والقومي، بل إلى البحث في فكرة توطين التنمية بقدر ما نستطيع.

* رئيس تحرير صحيفة الشروق المصرية