يبدو أن أوضاع ما بعد أزمة كورونا ستكون أقسى على العالم مما كان يتصور الكثيرون، التحديات لن تكون في استعادة وجه الحياة الطبيعية وضخ الدماء إلى اقتصاديات منهكة ومعالجة آثار حرب ليست ككل الحروب، التحديات أكبر لأنها تجري في مرحلة دقيقة من تاريخ العالم، تتغير فيها الموازين وتحتدم فيها الصراعات ويفتقد فيها العالم «البوصلة» التي تحدد الطريق.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش وصف الموقف «بأننا إزاء مجتمع دولي منقسم للغاية في وقت تفرض فيه الظروف أن يكون متحداً أكثر من أي وقت مضى»، ورغم قيود الدبلوماسية يمضي الرجل إلى قلب المشكلة حين يشدد أن «هناك انفصالاً بين الزعامة والقوة، نرى أمثلة رائعة على الزعامات ولكنها لا تقترب عادة بالقوة اللازمة، وعندما نرى القوة أحياناً لا نرى الزعامة المطلوبة».
يعرف جوتيريش جيداً أن مثل هذا الوضع قد يصلح لإدارة الأمور لبعض الوقت في الظروف العادية، ولكنه لا يمكن أن يكون صالحاً في أوقات الأزمات الكبرى، ولا لقيادة عالم يمر بمفصل تاريخي يعرف الجميع أن الأمور بعده لن تكون مطلقاً كما كانت قبله.
الموقع الذي يمثله جوتيريش على رأس المنظمة الدولية الأهم يمنح حديثه دلالة رمزية، ما زالت المنظمة هي العنوان الأساسي للنظام الذي أقامه «المنتصرون» في الحرب العالمية الثانية، الذي يبدو الآن كأنه يمر بآخر مراحله، كان قادة الدول الكبرى يومها يدركون معنى اللحظة وضرورة البناء عليها قبل فوات الأوان، كان القادة – رغم اختلاف الرأي والتوجهات - يملكون ما يشكو جوتيريش من افتقاده الآن: الجمع بين الزعامة والقوة، ومن هنا أقاموا النظام الذي تحمل عبء اندلاع الحرب الباردة ونجح في منعها من التحول لحرب عالمية ثالثة تدمر كل شيء، وبالطبع كانت هناك أزمات وصدامات وحروب بالوكالة، وكان هناك عالم يتغير وشعوب تستفيد من الحرب الباردة لتشعل أكبر حركة تحرر عالمي في إفريقيا وآسيا، ثم كان هناك التطور الأبرز بانهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة والترويج لنظرية التفوق الأمريكي النهائي والدائم، وهي النظرية التي لم تصمد طويلاً.
وها نحن منذ بداية الألفية الجديدة نعيش ظروفاً استثنائية بكل معنى الكلمة، الكل يدرك أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد صالحاً للاستمرار كما هو، موازين القوى في القمة تتغير مع عودة روسيا والصعود السريع للصين والاقتصادات الناشئة، ونظام «العولمة» الذي أقامه الأقوياء ليزدادوا قوة وثراء أصبح - في النهاية – عبئاً عليهم بعد أن أتقن بعض «الصغار» أسرار اللعبة وتفوقوا فيها، وبعد أن اختصرت التكنولوجيا الحديثة كل المسافات، وبعد أن اكتشف الغرب استحالة الاستمرار في طريق تنعكس فيه الآية، ويتحول إلى مجرد «زبون» لما تنتجه الصين للدرجة التي تفاجئهم كارثة كورونا فيقفون منتظرين دورهم لمجرد الحصول على «الكمامات» أو غيرها من المستلزمات الطبية التي كانوا يستنكفون أن يضيعوا الوقت في إنتاجها في مصانعهم!
الآن يتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين لدرجة غير مسبوقة، ويهدد الرئيس ترامب بقطع كل العلاقات بين البلدين (!!).. قد يكون موسم الانتخابات ومحاولة إلقاء مسؤولية الأخطاء في مواجهة كورونا على الغير – أحد أسباب التصعيد – ولكن أصول الصراع موجودة قبل ذلك بكثير، والرؤية الأمريكية كانت تتحرك على الدوام – منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وربما قبل ذلك – على أساس أن الخطر قادم من بكين، وأن ساحة الصراع الدولي تحولت إلى آسيا.
والصين – من جانبها – كانت تدرك ذلك، وكانت تسعى على الدوام لكسب الوقت وتحقيق المزيد من التنمية والتفوق الصناعي والتكنولوجي.
قد تهدأ الأمور مؤقتاً بصفقة تجارية تحقق لترامب مكاسب يعتد بها يقدمها للناخب الأمريكي، ولكن الصراع في جوهره باقٍ ومستمر، وهو بالتأكيد سيتصاعد مع تصاعد التوجه الغربي لإعادة توطين الصناعة، ولفرض شروط جديدة على «العولمة» تحد من قدرة الصين على الإنتاج والتصدير اعتماداً على رخص الأيدي العاملة.
ولا أحد في العالم أصبح يجادل في ضرورة تعديل النظام العالمي الحالي أو تغييره لنظام يستوعب المتغيرات الهائلة التي تتسارع، ولكن الخطر الحقيقي – في مرحلة ما بعد كورونا – أن إدارة المرحلة الصعبة المقبلة ستكون ما زالت في يد الأنظمة المهزومة في الحرب ضد كورونا (!!) وأننا سنكون بحاجة لفترة يلتقط فيها العالم أنفاسه ويحاول أن يجد رؤية «أو رؤى مختلفة» لعالم جديد أكثر عدلاً وحرية وإنسانية، ويتجاوز فيها هذا الوضع الذي يرسم له أمين الأمم المتحدة جوتيريش صورة بائسة وهو يتحدث عن عالم يفتقد لزعامة تمتلك القوة أو لقوة تقترن بالزعامة التي تملك الرؤية.
الترجمة الواقعية لحديث جوتيريش سوف تجدها في هذا الصراع الذي اندلع فجأة حول أولوية الحصول على لقاح كورونا! لم يتعلم أحد شيئاً من الكارثة، وما زال البعض يتصور إمكان العالم بعد كورونا محكوماً بقواعد نظام عالمي فقد كل مبررات وجوده!