مع انتشار وباء «كورونا» عبر العالم، متخطياً حواجز اللون والعرق والغنى والفقر والتقدم والتخلف، بدأ ـ كما هو واضح من متابعة مداخلات المفكرين والفلاسفة ومقارباتهم ـ زمن الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالموت والحياة ووجود البشرية ومستقبل الإنسان والطبيعة والضمير والأخلاق، وهذه الأسئلة وإن كانت قديمة، إلا أنها قد تثار على نحو جديد وبصيغة أخرى تتلاءم مع طبيعة العصر والمعطيات العلمية والتكنولوجية.
اعتبر بعض الفلاسفة أن وباء كورونا هو «تجربة فلسفية» ووجودية، تفرض تساؤلات بشأن هوامش الحرية الذاتية للبشر، والخوف من المجهول واللاعقلانية في التصرف والسلوك، كما اعتبر بعضهم أن «الفيروس» تسونامي صحي واقتصادي أو ذهني، سيكون له آثار عميقة في التفكير.
مع انتشار الفيروس، ظهر إلى العلن اللا متوقع وغير المتحكم فيه وساد اللا يقين البشر أفراداً وجماعات، وأعيد طرح السؤال الذي يتعلق بقدرة البشر الذاتية وطبيعة الحرية التي يتمتع بها الكائن الإنساني تحت وطأة وجود هذا الفيروس، الذي لم تتوفر حتى الآن القدرة على السيطرة عليه.
إن انتشار الوباء على النحو الذي نراه الآن ونتابع ضحاياه أولاً بأول، قد أعاد لحقيقة الموت الظهور والتذكير، بحيث أصبحت ماثلة للعيان، باعتبار أن الموت يمثل الحقيقة المؤكدة لكل إنسان، خاصة أن نمط الحياة الحديثة بالذات في الدول الغنية وما يتميز به من وجوه الترف والمتعة والمباهج، وما يحفل به من قيم تغذية وتحركه وتمثل مرجعية حداثية له، قد ساهم في «نسيان الموت» وتغييبه وإبعاده عن الذاكرة؛ حيث لم يعد الإنسان في المجتمعات المتقدمة يحفل بالموت وطقوسه، كما أن طقوس الموت والدفن أصبحت من اختصاص شركات ومؤسسات تهدف إلى الربح، واختفت مع الموت مظاهر الاحتجاج والصخب والحزن على المتوفى، ودخلت هذه المظاهر طور الاختفاء والتقاليد البالية، التي لا تعبأ بها الحياة الحديثة بل وليست مطلوبة على أي نحو، فليس لدى الجميع الوقت للاهتمام بذلك، لقد أفضى نمط الحياة الحديثة إلى ظاهرة «موت الموت» واختفائه وكأنه لم يعد قائماً وموجوداً.
يركز بعض المفكرين على أن شعور البشرية والإنسانية بالخوف قد لعب دوراً كبيراً في تطورها وارتقائها؛ لأن الخوف يدفع الإنسان لتجاوز مخاوفه وتأمين نفسه من مصادر الخوف، حيث لازم الخوف تطور الإنسان منذ بداية وجوده على الأرض وفي الطبيعة، حيث كان يخشى ويخاف الرعد والبرق والعواصف والسيول والحيوانات المتوحشة، وفي مواجهة هذه المخاوف طور أدواته وتفكيره لمواجهة تلك المخاوف وتأمين وجوده عبر الزمن ووفقاً لاكتشافاته وتطور قدراته ومعرفة إمكاناته العقلية ومعرفته بالطبيعة.
أعاد انتشار الوباء مشاعر الخوف لدى الإنسان بل أصبح الخوف هو الهاجس المسيطر، الخوف من الموت ومن الآخر ومن الطبيعة، وبالتأكيد فإن هذا الخوف سيدفع الإنسان والبشرية إلى تطوير لقاحات وأمصال للقضاء على الفيروس، بل وأكثر من ذلك فإنه قد يدفع في اتجاه تطوير حياته ونمط حياته وتأمين وجوده على وجه الكوكب، بعد أن اكتشف هشاشة هذا الوجود، ومن المحتمل أن يمثل الخوف في اللحظة الراهنة مفتاحاً لبدء صفحة جديدة للبشرية تؤمن فيها وجودها وتحميه من الفيروسات المجهولة.
على صعيد آخر فإن انتشار الوباء سوف يسهم في ظهور حراك اجتماعي جديد علي الصعيد الوطني، داخل كل دولة وعلى الصعيد الدولي كذلك، أي خلق تراتبية اجتماعية جديدة يشغل فيها العلماء والأطباء والممرضون والجهاز الصحي المكانة الأولى باعتبارهم هم من يقفون في الصف الأول لمواجهة الفيروس، ويعرضون أنفسهم للإصابة بالفيروس حماية للآخرين، كما أن علماء الفيروسات والأدوية والأمصال واللقاحات هم المنوط بهم وقف الوباء والقضاء عليه من خلال دراستهم للفيروس، وتطوير لقاح أو مصل يوفر للإنسان الحصانة ضد الإصابة به، وهذه المهمة ليس بمقدور الساسة والسياسة القيام بها، حيث تقتصر مهمتهم علي إدارة الأزمة وفرض التباعد الاجتماعي وتقييد الحركة وتوفير المستلزمات الطبية والعلاجية، وستظل هذه المهام غير كافية ما لم تدعمها جهود العلماء في ابتكار الأمصال واللقاحات الضرورية لوقف انتشار هذا الفيروس وتطوير أخلاقيات العلم والتكنولوجيا.
وهكذا يعيد انتشار وباء كورونا تشكيل الأسئلة الكبرى وصياغتها على نحو جديد، ويضع أمام المفكرين والفلاسفة مهمات جديدة ونوعية ويثير العديد من الأسئلة والدهشة والتساؤلات التي تسهم في تشكيل الوعي المعاصر بالكون والحياة.