أدانت الكنيسة الكاثوليكية في بوروندي ممثلة برئيس المؤتمر البوروندي للأساقفة الكاثوليك المخالفات التي أثرت في شفافية ونزاهة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي أسفرت عن فوز مرشح الحزب الحاكم إيفاريست ندايشيميي، ما ضاعف حالة الإرباك السياسي في البلاد، وأعطت في المقابل دفعة معنوية لصفوف المعارضة والمنافسين للإعلان عن التقدم باستئناف للمحكمة الدستورية.
المتتبع لتاريخ «أوروندي» قديماً، أو كما يطلق عليها «بوروندي» حديثاً سيجد أن أحداثها المتسارعة لم تبدأ إلا بعد نهاية العهد الملكي الذي بدأ في القرن السابع عشر وانتهى في القرن العشرين، فبعد سقوط الملكية وقيام الجمهورية على يد الجنرال ميشيل ميكومبيرو تغير وجه بوروندي إلى الأبد، وبدأت سلسلة الانقسامات والتنافر العرقي بين مكونات الدولة البوروندية (الهوتو، التوتسي) أكثر حدة أفقد الدولة قبل مواطنيها لغة التوازن والسلام.
مملكة بوروندي كان يحكمها الملك نتاري روتاغانزوا الذي حقق أكبر توسع في تاريخ البلاد، وبعد وفاته حكم نجله موامي مويزي الرابع، وخلال فترة حكمه استعمرت ألمانيا بوروندي، وتم توقيع اتفاق 1890 والذي سمح لموامي مويزي بالبقاء كملك مع اعترافه بالسلطة الاستعمارية الألمانية، وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية خضعت بوروندي لاستعمار بلجيكي واستمر حتى حصلت بوروندي على استقلالها في ستينيات القرن الماضي .
وكان يحكم بوروندي في ذلك الوقت الملك مومبوتسا الرابع الذي قام بتعيين نجله نتاري نديزيي الخامس وريثاً للعرش، إلا أن ولي العهد سرعان ما انقلب على والده وأعلن نفسه ملكاً، ولكن غدر به صديقه رئيس الوزراء ميشيل ميكومبيرو الذي ألغى الملكية وأعلن الأمة جمهورية.
ومن المفارقات أن الملك الشاب نتاري الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره بعد أن أمضى في منفاه فترة من الوقت قرر العودة إلى بوروندي بالاتفاق مع رئيس أوغندا في ذلك الوقت عيدي أمين، والذي أكد للملك الشاب بأنه تلقى ضماناً مكتوباً بخط اليد من الرئيس ميشيل ميكومبيرو بضمان السلامة، ولكن ما كان يُضمر للملك الشاب أكبر من أن يُدركه.
فلقد قرأت الأجهزة الأمنية بأن عودة نتاري لبوروندي هي محاولة لاسترجاع ملك أجداده الذي سُلب منه، لذلك ما إن وصلت طائرة الملك الشاب الأراضي البوروندية حتى تم وضعه تحت الإقامة الجبرية وبعدها تم قتله في حادثة ما زالت فصولها غامضة حتى اليوم.
اعتنق ميشيل الاشتراكية الأفريقية وحاول أن يتخذ موقفاً محايداً في الحرب الباردة في الوقت الذي كانت الدول الغربية تعمل على منع تحول بوروندي لقاعدة لوجستية داعمة للتمرد الشيوعي في الكونغو.
وسرعان ما تم الانقلاب على نظام ميشيل ونفي بعدها إلى الصومال وتوفي فيها، وتوالت بعد ذلك التجاذبات السياسية بين عرقية الهوتو والتوتسي ولم تعرف بوجمبورا حكماً ديمقراطياً إلا بقدوم الرئيس ملشيور ندادايي الذي تم قتله بعد استلامه الحكم لتشهد بعدها منطقة البحيرات العظمى أبشع المجازر البشرية.
تم توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة البوروندية وقوات الدفاع عن الديمقراطية لتدخل بروندي في مرحلة جديدة من الاستقرار الحذر، ووصل للسلطة عام 2005 بيير نكورونزيزا، واستمر بالسلطة حتى بداية هذا العام، ومع نجاح مرشح الحزب الحاكم فلا يمكن القول إن هناك تغييراً كبيراً ننتظره في بوجمبورا التي لا ترغب بانفلات الأمور.
ولكن هدوء الشارع البوروندي والمعارضة بعد تصريح الكنيسة يحمل دلالتان، فإما أن الحزب الحاكم توصل مع الكنيسة لتسوية بالكف عن الحديث حول عدم شفافية الانتخابات الرئاسية، حتى لا تنزلق البلاد في فوضى سياسية وحرب أهلية، شبيهة بالتي حدثت في الماضي، وإما أن هناك وعوداً أعطيت للمعارضة والمُنافسين بمناصب في الحكومة، وحتى وإن حدث ذلك فهل المعارضة وعلى رأسها أغاثون رواسا سيخبو طموحهم للوصول للسلطة؟
أمام تلك التكهنات والهدوء الحذر الذي بات يسود بوجمبورا أرى أن تساهم دول الخليج في الحفاظ على استقرار بوروندي، فالمصالح الخليجية في منطقة البحيرات العظمى وما جاورها دافع لدول الخليج مُجتمعة للحفاظ على استقرار تلك المنطقة، فدول الخليج شريكة في رفع مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية البوروندية، ولعبت دول الخليج دوراً رئيسياً في إدخال أهم الشركات المتخصصة في مجال المشاريع المستقبلية لبوروندي، كما ساهمت في تمويل فتح المنافذ البحرية، مما أنعش التبادل التجاري بين بوروندي والدول المجاورة.
* باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي