لافت للأنظار بلا شك هذا الهدوء وهذه الثقة، التي تتصرف بها مصر في وجه أزمتين خطيرتين معاً، الأولى مع التهديد لأمنها القومي من جانب الغزو التركي لليبيا، وحشد عشرات الألوف من الإرهابيين والمرتزقة على حدودها الغربية.

والثانية، هي أزمة السد الإثيوبي، التي تمس شريان الحياة، ويحاول الإثيوبيون فيها التحكم في مياه النيل، ضاربين عرض الحائط بكل المعاهدات والمواثيق الدولية، التي تحكم علاقات الدول المتشاركة في الأنهار.

تتصرف مصر بهدوء وثقة، لأنها دولة مؤسسات تبني استراتيجيتها للأمن القومي على أسس ثابتة، تحدد المخاطر، وتتوقع كل الاحتمالات، وتعد خطط المواجهة القادرة على حماية أمنها.

وتتصرف مصر بهدوء وثقة، لأنها تدرك من البداية أن القوى المعادية لن تتوقف عن استهدافها، لأن هذه القوى تدرك دائماً أن مصر هي العقبة الأساسية أمام مخططات استكمال الهيمنة على الوطن العربي، والتحكم في أقداره وأرضه وثرواته.

وإذا كانت هذه القوى قد صدمت بما حققته مصر في 30 يونيو، حين أسقطت حكم الإخوان، ومخططات إعادة تقسيم الوطن العربي، فإنها لن تتوقف لحظة واحدة بعد ذلك عن مواصلة الحرب ضد مصر، ومحاولة زعزعة الاستقرار فيها، والمساس بمصالحها الحيوية، ومع ذلك كله، وفي ظل ظروف دولية غير مواتية، صمدت مصر وانتصرت على الإرهاب، ومضت تبني قوتها القادرة على مواجهة التحديات، وعلى حماية الأمن الداخلي والقومي، وفق رؤية واضحة، تدرك حجم المخاطر، وتفهم جيداً أن امتلاك القوى (بكل مقوماتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية)، هو ما يضمن السلام ويحفظ الاستقرار.

ووفقاً لهذه الرؤية الاستراتيجية كانت مصر تتحرك على كل الجبهات، ففي الوقت الذي كانت تضرب فيه جذور الإرهاب، وتطهر أرض سيناء من مخاطره، كانت تبني قوتها القادرة على حماية الأرض وتأمين المصالح ودرء المخاطر من كل الاتجاهات.

مصر تتصرف بكل مسؤولية كونها دولة تحترم القانون، وتتمسك بالشرعية في مواجهة البلطجة التركية، والتعنت الإثيوبي.

في قضية مياه النيل، أعطت مصر كل الفرص للتفاوض من أجل الحل العادل والملزم، الذي يحقق مطالب التنمية لإثيوبيا، ويحفظ حقوق مصر والسودان في مياه النيل، الذي يمثل شريان الحياة بالنسبة لهما. وأبدت مصر والسودان كل المرونة في التفاوض، بينما كان التعنت هو سمة الموقف الإثيوبي، الذي يبدو حتى الآن غير مقدر لعواقب ما يفعل.

وفي أزمة ليبيا، كان الموقف المبدئي لمصر، أن ليبيا قضية أمن قومي بالنسبة لمصر، وأن الحل السياسي هو الطريق الوحيد لإنهاء الأزمة، وأن خروج القوات الأجنبية، وتفكيك الميليشيات وطرد المرتزقة، هو ما يجعل الحل السياسي ممكناً.

ومع التدخل التركي السافر، لم يكن ممكناً أن تسكت مصر حتى تتحول ليبيا إلى مركز للإرهاب، وحتى تجد مصر جنود تركيا والمرتزقة، الذين جلبهم أردوغان يهددون حدودها.

وعندما أعلن الرئيس السيسي أن مصر تمتلك الشرعية الكاملة للتدخل في ليبيا، واضعاً الخطوط الحمراء أمام عسكر أردوغان وميليشيات الإخوان وعصابات المرتزقة، كانت الرسالة واضحة، مصر لن تترك ليبيا وحدها في المعركة ضد الاحتلال التركي والإرهاب الإخواني، مصر تنحاز هنا لإرادة الشعب الليبي، وتدعم جيشه الوطني، وهي إذا دخلت ليبيا فسيكون وراء قبائل ليبيا، وسعياً وراء الحل السياسي، الذي أصبح «إعلان القاهرة» عنوانه الأساسي.

ومع استمرار الصلف التركي في دق طبول الحرب حول مدينة سرت كانت الشرعية الليبية «ممثلة في البرلمان المنتخب»، تستدعي دعم مصر، وكانت كل قبائل ليبيا تلتقي في التصدي للغزو التركي، استناداً لدعم مصر وشراكة المصير معها، وكان الرئيس المصري يؤكد قدرة مصر على حسم الموقف لصالح شعب ليبيا، وفي الوقت نفسه كان يؤكد أن مصر منذ البداية، وحتى الآن، تعمل من أجل الحل السياسي، وأنها حين وضعت الخطوط الحمراء، لم تكن تدق طبول الحرب كما يفعل الآخرون، بل كانت تطلب السلام الذي يفرض إنهاء الغزو الأجنبي، وترحيل المرتزقة وتفكيك عصابات الإرهاب، ويترك أبناء ليبيا يستعيدون دولتهم، ويعيدون لها الاستقرار والأمن.

على كل الجبهات، لا تسعى مصر للعدوان، ولا تجري وراء أوهام «السلطنة»، كما يفعل أردوغان، أو تتصور أنها قادرة على سلب حقوق الآخرين كما فعلت إثيوبيا، مصر تدافع عن حقوقها، وعن أمنها القومي، تتحمل المسؤولية، وتتصرف بالثقة التي يمنحها الحق لأصحابه، وبالشرعية التي تضع القوة في خدمة السلام والأمن، ولا تسمح «للبلطجة» أو الإرهاب أن تفرض كلمتها على الأرض العربية.