ستبقى المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإقليمية والعالمية، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في ميزان القوى والمصالح السائد بين الأقطاب الدولية والإقليمية. ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاء منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع والتنافس على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على شعوب الأمّة العربية ومدى وعيها لما يحدث فيها وحولها، ولقوّة المناعة الوطنية في دولها.

الأمّة العربية هي حالةٌ فريدةٌ جداً بين أمم العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارّات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لكل الجهات الأربع، وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية قبل قرونٍ من الزمن. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية.

عالم اليوم يتغيّر كثيراً، خاصّةً منذ سقوط «المعسكر الشيوعي» وتحوّل الولايات المتحدة أولاً إلى نقطة المركز والقيادة في دائرة الأحداث العالمية، ثمّ بخروج الصين وروسيا من عزلتهما وتنافسهما الشديد الآن مع القطب الأمريكي. ومع مجيء إدارة دونالد ترامب إلى «البيت الأبيض» اتّجهت أمريكا إلى سياسة التخلّي عن «العولمة» بجانبيها الاقتصادي والعسكري، واستبدالها بسياسات قائمة على «قوميات شعبوية» ومصالح فئوية أحياناً، وليس على تكتّلات دولية تُقيّد حركة الولايات المتحدة أو تُلزمها بتحالفاتٍ لا جدوى أمريكية منها حسب رأي ترامب.

ومن يتابع تصريحات قادة الأحزاب اليمينية المتطرّفة في دول أوروبية عدة يجد جامعاً مشتركاً مع مقولات ترامب وتوجّهاته ضدّ كل مضامين «العولمة»، وعلى قاعدة المفاهيم العنصرية.

المشكلة في بعض دول الأمّة العربية أنها لم تُحسن التعامل مع عصر «العولمة والعلمانية» الذي طغى بعد سقوط «الحرب الباردة» في مطلع حقبة التسعينات، ولا هي أيضاً تنجح حالياً في التعامل مع طروحات «القومية والدين» التي تغلب حالياً على الكثير من مجتمعات العالم. فها هي عدّة بلدان عربية تشهد صراعاتٍ أهليةً وانقساماتٍ دينيةً وإثنيةً تتناقض تماماً مع حقيقة ومضامين الرسالات السماوية، كما هي محصّلة للتخلّي عن الهُويّة العربية المشتركة.

هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات التي صنعت استقرارها وتقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوب أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقودٍ من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أمريكا مقابل تخلّف وفوضى وحروب في معظم المجتمعات الأخرى.

لكن المنطقة العربية تحديداً، كانت وستبقى، مستهدفة من القوى الدولية والإقليمية الكبرى بسبب ما تتميّز به عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين. وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً مهماً جعلها في العصور كلّها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم، سواء القديم منه أو الحديث. وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيرات طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً أساسياً للحياة والطاقة في العالم.

إنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش معظم شعوب المنطقة وفق ترتيباتٍ دولية وضعتها القوى الأوروبية الكبرى في مطلع القرن العشرين.

مشكلة تعثّر العمل العربي المشترك تعود أساساً إلى ما يحدث في البلاد العربية من تدخّل إقليمي ودولي في قضايا عربية داخلية، وبشكلٍ متزامن مع سوء أوضاع عربية في المجالات السياسية والأمنية، وفي ظلّ حالٍ من الجمود الفكري والانشداد إلى غياهب الماضي، وتغييب دور العقل ومرجعيته في الفهم والتفكير والتفسير.

إنّ شعوب الأوطان العربية عانت وتعاني الكثير من جرّاء خلافات حدثت في التاريخين العربي والإسلامي، ونتج عنها صراعات داخلية وتبريرات لأدوار أجنبية مختلفة، وهي مسائل جرت في الماضي ولا يمكن الآن تغييرها أو إعادة تصحيح أخطائها، بينما تقدر هذه الشعوب والطلائع المثقّفة فيها على تصحيح واقعها الراهن وحاضرها الممزّق فكرياً وعملياً، سياسياً وجغرافياً. فشرط نهضة العرب في هذه المرحلة هو تجاوز ما حدث في التاريخ، وتصحيح ما هو واقعٌ من انقسام وتمزّق في الجغرافيا العربية!

*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن.