عشنا الزمن الذي كانت فيه شركة «جنرال موتورز» المنتجة للسيارات، تشعر بأنها من القوة والتأثير والثروة، ما يجعلها تقول إن مصالح الشركة هي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت شركات السيارات هي قلب الرأسمالية العالمية ومركز المنافسة فيها بعد أن دخلت شركتا «تويوتا» و«هوندا» اليابانيان الساحة بتكنولوجيات جديدة لكي تضاف اليابان إلى أوروبا وأمريكا في إنتاج وبيع سلعة لها مكونات من الصلب، ويحركها النفط.
قمة النظام العالمي من الشركات كانت هي المنتجة للسيارات، ولكن هذه بعد ارتفاع أسعار البترول في أعقاب حرب أكتوبر 1973 جعلت من «الشقيقات السبع» المنتجة للنفط على قمة الثروة في النظام العالمي. أصبحت شركات مثل «إكسون موبيل» و«شل» في مقدمة 500 شركة في العالم استحواذاً على المال والأصول الاقتصادية.
الاتصالات زاحمت السيارات والنفط في المقدمة بعد ذلك التقدم الذي جرى في تلك السلعة العجيبة «التليفون»، خاصة أنه بات ممكناً له أن يكون موجوداً في السيارة ومن الممكن إجراء المكالمات إلى كل أنحاء العالم.
في سبعينيات القرن الماضي دخلت إلى مجالات القمة الرأسمالية شركة عجيبة أخرى هي «آي.بي.إم IBM» للكمبيوتر التي وقع على عاتقها إجراء عشرات الملايين من العمليات الحسابية التي جعلت مؤسسة «ناسا» الأمريكية للفضاء تصل بالإنسان إلى القمر. في العموم لم ينتهِ القرن الماضي إلا وكانت الثروة العالمية الهائلة للكوكب في يد العشرات من الشركات المتنافسة التي تنتج وتستهلك الكثير من البضائع والسلع والخدمات.
لم يوقف هذا التقدم فترات من الانكماش الاقتصادي، كما لم تعطلها الحرب الباردة، ولم يؤخرها انتهاء هذه الحرب، بل على العكس، توسعت السوق لكي تشمل نموراً وفهوداً اقتصادية من الدول والشركات التي تزاحم على القمة الرأسمالية العالمية.
القرن الواحد والعشرون شهد انقلاباً كبيراً في بنية الثروة والتكنولوجيا العالمية عندما جلس في 29 يوليو المنصرم الأربعة: جيف بيزوس (أمازون)، ومارك زوكربيرغ (فيسبوك)، وساندر بيكاي (الفابيت/جوجل)، وتيم كوك (آبل)، أمام لجنة فرعية مضادة للاحتكار في الكونغرس الأمريكي. ما يهمنا في مقامنا هذا أولاً أن الأربعة كانوا يمثلون الشركات التي عبرت في قيمتها «تريليون» دولار.
وثانياً أنه بينما خسرت معظم شركات العالم نتيجة وباء «كوفيد 19»، فإن الأربعة حققوا خلال الربع الثاني من هذا العام (أول أبريل إلى نهاية يونيو) حينما دخل البلاء إلى مرحلة حرجة في العالم كله، دخلاً قدره 205 مليارات دولار، وأرباحاً قدرها 28 مليار دولار، وزادت قيمتها في أسواق المال العالمية بمقدار 250 مليار دولار.
«أبل» حققت 59.7 ملياراً من المبيعات، و17% نمواً في العام الماضي؛ و«فيسبوك» حصلت على 18.7 ملياراً دخلاً، و11% نمواً في نفس الفترة، و«أمازون» حققت دخلاً خرافياً قدره 88.9 مليار دولار وارتفاعاً في للنمو قدره 40%. و«الفابيت» (جوجل) جاءت بدخل قدره 38.3 مليار دولار حتى وهي تتراجع عن العام السابق بمقدار 2%، ولا زلنا في الربع الثاني في كل الأحوال.
المحصلة في هذه الشركات أنها تحقق دخلاً وأرباحاً هائلة وغير مسبوقة بينما العالم كله يخسر ومجروح ومعتقل اختيارياً داخل المنازل ويحتاج إلى منتجات هذه الشركات. «أمازون» التي تقع في المقدمة لم يعانِ العاملون فيها من البطالة، وإنما أضافت الشركة 170 ألفاً من العاملين، ورغم أن تكلفة الحماية من الفيروس بلغت 4 مليارات دولار.
«فيسبوك» التي تشمل أيضاً «إنستغرام» و«واتساب» بلغ عدد مستخدميها 3.1 مليارات من البشر، وبات عدد المستخدمين لـ«فيسبوك» 1.8 مليار نسمة. لم يسبق في تاريخ البشرية أنه بات ممكناً لشركة أو هيئة اقتصادية أن تصل لكل هذا العدد من البشر الموجودين في كل أنحاء العالم.
ولم يكن ذلك ممكناً إلا باستمرار هذه الشركات في عمليات التطور التكنولوجي، وكما هي العادة فقد كانت «أبل» هي التي تقود الطريق؛ وهو ما جعلها قادرة على التغلب على دعاوى الاحتكار واستخدام محتوى للكراهية على منصاتها.
ما أثبتته هذه الشركات هي القدرة على تشجيع المنافسة بما يتيح لملايين من الشركات الصغيرة للانتشار، وأن مقاطعتها، بسبب ما ينشر عليها، لا يؤثر في قدرتها على كسب مواهب جديدة تعيش الرأسمالية في قرن وألفية جديدة.