ما يقرب من 1800 طن من مادة «TNT» شديدة الانفجار، أو زلزال بقوة 5 درجات على مقياس ريختر، هكذا قدر بعض المعلقين قوة الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت ورصدته أجهزة الاستشعار عن بُعد بالمعهد الأمريكي للبحوث الجيوفيزيائية كزلزال، وعصف بالبشر والحجر، وأحال الأخضر واليابس على حد سواء، إلى أطلال وشظايا وأشلاء وضحايا وجرحى ومشردين، فوق الأنقاض وتحتها، وحول ما يقرب من نصف مدينة بيروت أو ثلثها في بعض التقديرات، إلى أماكن للأشباح والظلمات بعد أن كانت تعج بالحياة والجمال والأعمال، وتحول ساكنو هذه الأماكن بين عشية وضحاها إلى مشردين وهائمين على وجوههم يبحثون عن مأوى وعن ذويهم المفقودين.
مشاهد لم يكن يتوقعها أكثر الناس تشاؤماً، بل ربما لم تكن تطوف بمخيلتهم يوماً، إن من اللبنانيين أو غيرهم، مشاهد قد لا تبرح الذاكرة لمدة طويلة، وستظل تسكنها، بسبب عمق المأساة وتداعياتها وتسرب آثارها إلى أعماق الوعى والشعور إلى أجل غير معلوم.
انفجار مرفأ بيروت لا تقتصر خطورته فحسب على انهيار هذا المرفق الحيوي، إنما للمدينة أو للبنان ككل، باعتباره شريان الحياة الرئيسي الذي يمر عبره ما يقرب من 70 % من تجارة لبنان مع الخارج، واردات وصادرات، كما أن خطورته لا تنحصر في عدد الضحايا والجرحى والمنازل المهدمة، رغم فداحة وهول الكارثة، وإنما أيضاً لأنه يمثل انفجار وانهيار العقل السياسي السائد؛ الذي لا يرى في السياسة والحكم إلا «مغنماً» أو «غنيمة» وامتيازاً، لا يحظى به الآخرون، وليس إدارة للشأن العام وتأمين المواطنين وحياتهم، باعتبار ذلك هو القيمة العليا التي ينبغي أن توجه السياسات والأداء والمعيار الأوحد للرشد والمسؤولية.
ورغم أن لبنان بلد صغير، إن بمعيار المساحة أو عدد السكان، إلا أن بيروت ولبنان قد اضطلعا بأدوار كبيرة تفوق بكثير إمكانات لبنان وموارده وتاريخه، تجاوز لبنان في تحمله هذه الأدوار التمثلات الذهنية الغربية عنه، والصورة التي رسختها العديد من الدوائر الغربية والمحلية عن لبنان؛ «سويسرا الشرق» أو حياد لبنان؛ أو جسر بين الشرق والغرب، حيث شهد لبنان العديد من الاعتداءات والحروب.
تحمل لبنان كل هذه الأدوار، بعضها تحملها طوعاً وبعضها الآخر كرهاً، ولكنه في جميع الأحوال تحملها بشجاعة وبإخلاص، ودفع في الحالين الثمن مضاعفاً، وتحمل اللبنانيون أقدارهم بصبر ودأب، وعبروا المحن والأزمات التي عصفت بهم وأعادوا بناء ما خلفته الحرب الأهلية واستعادوا الثقة في قدرتهم على الإعمار والعمران.
مثلت بيروت نافذة للسياسيين والمثقفين العرب على حد سواء، بديمقراطيتها التوافقية والإيمان بالحق في التعبير والمعتقد السياسي، لجأ إليها الأولون الذين ضاقت ذرعاً بهم أنظمة بلادهم، لم يكونوا غرباء فيها، بل وجدوا فيها حاضنة لأفكارهم وحياتهم إلى حين، وربما حصل بعضهم على الجنسية اللبنانية وأصبحوا مواطنين على قدم المساواة مع أقرانهم اللبنانيين، رغم عودة بعضهم إلى بلادهم مع تغير النظم والعهود، أما المثقفون فقد وجدوا في لبنان وبيروت منفذاً لكتاباتهم وآرائهم النقدية، ورحبت بكتاباتهم الأدبية والسياسية دور النشر ومؤسساته اللبنانية، وارتبط الكثيرون منهم بعلاقات صداقة وتعاون قائمة حتى اللحظة الراهنة.
عاملت بيروت السياسيين والمثقفين من مختلف البلدان العربية برحابة صدر لم تفرق بينهم، فجميعهم من كافة الأطياف السياسية والفكرية على قدم المساواة.
في أوج الحرب الأهلية اللبنانية والانقسام الطائفي والأهلي ولغة الرصاص والعنف المتبادل بين مختلف الأطراف، يذكر أن الدكتور خير الدين حسيب رئيس مركز دراسات الوحدة العربية، كان يمر عبر الحواجز المقامة بين الفرقاء والأخوة الأعداء، دون أن يتعرض له أحد من القائمين على هذه الحواجز، وكان ذلك يعكس التقدير من كافة الأطراف لدعوة الوحدة العربية التي يقوم بها مركز دراسات الوحدة العربية على أسس منهجية وعلمية، ولم تعصف لغة القوة والرصاص بفكرة الوحدة العربية واحترام القائمين عليها، بل بقيت في الوعي باعتبارها الأمل الأخير والملاذ الوحيد لجمع الشتات واستنهاض الهمم.
عزاء اللبنانيين أن المجتمع الدولي، ورغم أنه فقد الثقة في المؤسسات والمنظمات الحكومية، إلا أنه لم يفقد الثقة في الشعب اللبناني؛ فلا يزال رصيدهم قائماً عربياً ودولياً، بل وبأكثر مما يتوقع المتفائلون، وفرق المجتمع الدولي دون عناء بين مؤسسات الدولة وبين المواطنين، سواء الذين انتفضوا ضدها أم آثروا الصمت.