عبر التاريخ، لعبت المدن دوراً فعالاً في تنمية الاقتصاد وبناء الأبعاد الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتها. ونرى ذلك منذ عام 1300 قبل الميلاد، عندما اشتهرت حضارة فينيقيا في بناء السفن والعلوم، ثم نموذج سمرقند، 400 قبل الميلاد، وسمعتها المنقطعة النظير في مجالات التجارة والدين والثقافة التي قامت بجذب العديد من الحملات العسكرية بدءاً من الإسكندر المقدوني إلى جنكيز خان.
منذ ذلك الحين إلى الآن، شهدنا تطوراً هائلاً في الدور الذي تلعبه المدن، حيث تساهم المدن الضخمة في الوقت الحاضر بأكثر من 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مع تأثير اقتصادي مذهل، حيث باتت المدن هي محور الاقتصاد والابتكار.
فلنأخذ على سبيل المثال ولاية كاليفورنيا الأمريكية التي يبلغ عدد سكانها 39 مليون نسمة، ويعتبر اقتصادها خامس أكبر اقتصاد من بعد ألمانيا مباشرة. ومشهورة كولاية «هوليوود» و«سيليكون فالي» بالإضافة إلى حاضنة لأربعة ملايين شركة صغيرة.
في عالم ما بعد «كوفيد 19»، يعد الدور الذي ستلعبه المدن في بناء وإنعاش الاقتصاد أمراً في بالغ الأهمية، فضلاً عن ربط الدول مرة أخرى، خاصة بعد الانغلاق والنهج القومي الداخلي الذي شهدته معظم البلدان. لذلك، نحن بحاجة إلى توظيف أدوات مبتكرة للاستفادة من قوة المدن. وهنا أود أن طرح سؤالاً، هل يمكن دمج المدن في السياسة الخارجية للدول من أجل توظيف دور «دبلوماسية المدن»؟
وهل يمكن لـ«دبلوماسية المدن» أن تساهم في بناء مستقبل أكثر مرونة واستدامة إذا تم توظيفها بشكل كامل؟
الدبلوماسية هي أداة يتم توظيفها لخدمة السياسة الخارجية للدول، حيث نشهد ترابطاً قوياً بين الاثنين، من خلال وضع أطر الدبلوماسية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. أما «دبلوماسية المدن» فهي وسيلة تساهم في تفاعل المدن مع بعضها، وتتشارك مصالحها مع الجهات ذات الصلة من خلال المنصات الدولية، وخدمة السياسة الخارجية لدولتها بالإضافة إلى مصالح سياستها الداخلية على حد سواء.
وعند العودة إلى التاريخ، نرى أن الدبلوماسية كانت موجودة قبل تواجد الدول، حيث هيمنت المدن على السياسة الخارجية، كما في حال اليونان القديمة عندما تم تبادل الدبلوماسيين بين أثينا ومقدونيا لتأسيس مفاوضات حول مصلحة المدن في مجالات مثل التجارة والعلوم والمصالح المشتركة.
ومع ذلك، عندما تم توقيع معاهدة وستفاليا في عام 1648، تم تأسيس حقبة جديدة للعلاقات الدولية، من حيث التفاعل بين الدول باعتبارها السلطة الوحيدة ذات السيادة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دخل لاعبون جدد على ساحة العلاقات الدولية، مثل المنظمات الدولية.
وبما أننا في القرن الحادي والعشرين ونشهد جائحة غيرت النظام العالمي، فمن المتوقع أن يتغير وجه العلاقات الدولية والدبلوماسية، من خلال استكشاف وإدخال أدوات جديدة تضمن جاهزيتنا للمستقبل.
يمكن للحكومات الاستفادة من «دبلوماسية المدن» من خلال مفهومين، وذلك لخدمة سياستها الخارجية بشكل أفضل والتواصل مع المجتمع الدولي. أولاً، هو «النهج الموازي» لـ«دبلوماسية المدن»، ومن خلاله يتم تقديم السياسة الخارجية على مستوى الدولة.
وفي الوقت ذاته، تبذل جهود على مستوى الحكومة المحلية للتعاون للوصول إلى المصلحة المشتركة لتحقيق الأهداف للسياسة الداخلية والخارجية في آن، وذلك لتحقيق النتائج المرجوة. أما النهج الثاني هو «بناء المجتمعات»، ونتطرق هنا إلى الأهداف الإنسانية.
حيث تقوم «دبلوماسية المدن» في المساهمة في بناء الحكومات المحلية في مجتمعات شهدت فترات نزاع. خاصة عندما لا يعير التدخل الخارجي الاهتمام لبناء أنظمة الحكومة المحلية والبنية التحتية. وهنا يكمن دور «دبلوماسية المدن» المهم لربط الجهات ببعضها بما يعود بالنفع للنهوض بهذه المجتمعات مرة أخرى.
تخدم السياسة الخارجية على أفضل وجه عندما يتم دمجها بشكل جيد مع السياسة الداخلية، حيث تكون خير دليل على اتباع الدول لنهج متماسك.
لا يمكننا غض البصر عن الدور الرئيسي الذي تلعبه المدن على الساحة الدولية، والتي من الممكن أن تتوسع وتفتح مجالات جديدة مشتركة. وهنا لا يسعني سوى أن أتساءل، هل من الممكن أن نشهد في المستقبل دبلوماسيين يمثلون مدنهم ومن خلال ذلك يجنون فوائد اقتصادية وعلمية وثقافية لحكوماتهم؟
* كاتبة وباحثة إماراتية في مجال العلاقات الدولية