انعقد مؤخراً اجتماع الفصائل الفلسطينية الذي تعذر انعقاده لأكثر من 20 عاماً بسبب الانقسامات والانشقاقات الداخلية بينهم، والذي انتظره الشعب الفلسطيني طوال سنوات سبيلاً لإنهاء معاناتهم ومآسيهم، إن صدقت نوايا المجتمعين، وأخلصوا عملهم لله ثم لشعوبهم ووطنهم وقضيتهم.
وبداية نقول لو لم يكن للخطوة الجريئة التاريخية التي أقدمت عليها الإمارات بشجاعة بالمضيّ في معاهدة السلام مع إسرائيل، إلا تحقيق هذا الإجماع الفلسطيني الذي طال أمله لكان خيراً كثيراً، فمعاناة الفلسطينيين وتعميق وتعقيد قضيتهم سببها الرئيسي يعود إلى تلك القيادات التي تولت إدارة هذه القضية لعقود لم تحقق فيها أي منجز، ولم تحفظ خلالها أية حقوق أو تحمي مكتسبات، وانحصرت بطولاتهم في السعي إلى السلطة والسيطرة على الزعامة، عدا عن تحقيق المكاسب الشخصية والحزبية على حساب القضية التي فقدت مركزيتها وتراجع الاهتمام العالمي بها، وازدادت بسببها معاناة الشعب وتضاعفت جراحاته وآلامه، لاسيما بعد خلافات السلطة وحماس التي قطعت أوصال الوطن ومزّقت الشعب، وتسببت في تعطيل الوصول إلى حلول ممكنة ومقبولة للقضية على قرار مبادرة جامعة الدول العربية التي أعيق تنفيذها بسبب التأزيم والتقسيم الفلسطيني لأكثر من 18 عاماً.
الغريب في الأمر أن إسرائيل لم تكن حاضرة باجتماع الفصائل، ولم تحضر أيضاً فلسطين ولا الشعب الفلسطيني بهمومه وتطلعاته، وحضرت دول مجلس التعاون الخليجي بشكل رئيسي كمحور للاقتتات والاسترزاق الرخيص من قبل بعض قيادات فقدت عزتها قبل أن تفقد مصداقيتها وأمانتها، هذه الدول التي كانت وما زالت وستكون دائماً وأبداً، الداعم الرئيسي للشعب الفلسطيني في سعيه لتحقيق تطلعاته بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الموقف الذي أكدته مؤخراً دولة الإمارات العربية المتحدة، فيما جاءت المبادرة العربية للسلام ثمرة مواقف الدعم من الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية.
وإذا كنا نعتب على قيادات تلك الفصائل التي لم يبقَ من بعضها إلا سراب تاريخ وهلامية تنظيم، فشلهم في الخروج بقرارات تسهم في حل القضية الفلسطينية أو إنهاء معاناة الفلسطينيين بالداخل والخارج، فإننا نستنكر وبشدة ما تضمنه اجتماعهم من إساءات مرفوضة لقيادات ودول مجلس التعاون الخليجي، وهي الإساءات التي تثبت حقيقة واحدة لطالما آثرنا التغاضي عنها وإخفاءها، ألا وهي افتقار بعض تلك القيادات إلى الفضيلة التي يجب أن يتحلى بها كل سياسي، فالوضاعة لا تحقق للشعوب استقلالها، ولا تكسبهم الاحترام والتقدير العالمي اللازم لدعم نضالهم ونيل حقوقهم، والتعليم الذي تشدّقت به تلك القيادات في اجتماع الفصائل، هو العلم الذي استثمرته دول الخليج في بناء دولها والنهوض بشعوبها لتكون في مقدمة دول العالم، وهي المعرفة التي تصدرت بها دول الخليج كبريات الدول على الأرض كلها «باطنها وسمائها»، وهو السلاح الذي ارتكزت عليه في تعزيز منظومتها القيمية والأخلاقية، وعبر عنه سمو الشيخ عبدالله بن زايد، وزير الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة، في رسالته التي وجهها للإخوة الفلسطينيين في الداخل والخارج، بما تضمنته من قيم ومبادئ سامية تعكس ثبات الإمارات على مبادئها العربية، ووقوفها دائماً وأبداً مع الدول والشعوب العربية، جنباً إلى جنب مع شقيقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي.
والتعليم الذي تشدّق به قادة الفصائل همزاً ولمزاً في اجتماعهم، هو الذي أوصلهم للهاوية السياسية والأخلاقية، ودفعهم للانحدار من القمة إلى القاع، لاسيما دعوتهم لبث الفوضى والتخريب بالدول العربية، في سلوك منحرف يشج عن مفاهيم الأمن القومي العربي وينقلب على قيمه ومبادئه التي تجرّد منها القادة المجتمعون، فالإمارات وبقية دول مجلس التعاون الخليجي فتحت أبوابها ومؤسساتها للإخوة الفلسطينيين، عاشوا فيها أخوة ينعمون بكل ما ينعم به المواطن، ويحظون بالرعاية والاهتمام كما تحظى القضية الفلسطينية بالصدارة والأولوية دائماً، رغم المواقف المحبطة التي انحاز لها قادة في تلك الفصائل، والخيارات التي أقدموا عليها دون واعز أخلاقي أو إدراك سياسي وإيمان عربي وإنساني، وليس أقلها موقفهم من غزو الكويت تارةً، والتهديدات الإيرانية للأمن القومي العربي تارةً أخرى، وغيرها الكثير، كما هو الحال في خياراتهم الخاصة بالسلام والتسوية والتطبيع، التي اتخذوها خلسة دون تنسيق عربي أو مشاركة لدول وقادة لطالما كانوا لهم المعين عند العوز والداعم عند الحاجة، ولم يصدر عن قادة أو شعوب دول مجلس التعاون أية إساءة للشعب الفلسطيني أو قادته طوال التاريخ، رغم ما تجرعونه من آلام كان سببها قادة في تلك الفصائل الذين اجتمعوا خارج إطار الزمن والتقوا في صالونات النخاسة السياسية.
وإذا كان لنا من همسة نقدّمها لقادة الفصائل الفلسطينية الذين تجاوزهم التاريخ وتعاقبتهم المحن، فهي العودة إلى الحضن العربي بعيداً عن لقاءات طهران والضاحية، ونظريات الإخوان وبطولات أردوغان، فنظرية الزير سالم في السيادة على الأمة لم تعد مجدية، في ظل وعي مجتمعي فلسطيني ينمو ويتمدد، وعليهم وهم يرون الشيب وقد غزا رؤسهم والسنين وقد نالت من صحتهم ووعيهم، التفكير في ترك القضية لجيل من الشباب القادر حقاً على التعاطي مع متطلبات هذه القضية المعقّدة، وتحقيق ما يتطلع إليه الشعب الفلسطيني، فما عجزوا عن تحقيقه طوال عمرهم الذي ارتبط بعمر القضية، لن يتحقق لهم في القادم، ما لم يؤمنوا بالتغيير ويتسلحوا بالشجاعة سبيلاً لتحقيق السلام والتنمية.