انتقل إلى جوار ربه عن عمر ناهز الـ91 عاماً قائدٌ مميّز حظي باحترام المجتمع الدولي وكان محبوباً من شعبه. لقد حزنتُ كثيراً على المستوى الشخصي عندما علمت أن أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح قد خسر معركته مع المرض بعد معاناة طويلة بعدما كان يتردد إلى الولايات المتحدة لتلقّي العلاج.
سوف نفتقد كثيراً حكمته وسخاءه ومواهبه الطبيعية في صنع السلام. وأتوجّه بأحرّ التعازي القلبية إلى أفراد أسرته وجميع أشقائنا الكويتيين على مصابهم الأليم. لقد كان لي شرف لقائه في فندقي في بيروت قبل بضع سنوات، وقد أُعجِبت كثيراً بشخصيته الدافئة إنما أيضاً المهيبة.
كان الشيخ الصباح من وجوه المدرسة القديمة البارزين بين رؤساء الدول في الخليج، وكانت تربطه صلة قوية بنظرائه في مجلس التعاون الخليجي، وقد عمل من أجل أن يكون المجلس متماسكاً وموحّداً ومؤثِّراً. كان شخصية متفانية في سبيل الوحدة ورصّ الصفوف، وقد سعى دائماً إلى التوفيق بين الأفرقاء المتناحرين من دون الاصطفاف إلى جانب هذا الفريق أو ذاك.
على امتداد نصف القرن الماضي، خلال تولّيه حقيبة وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء في الكويت وصولاً إلى تنصيبه أميراً للبلاد وقائداً للقوات المسلحة في عام 2006، كان على الدوام قوةً من أجل التهدئة في أعتى العواصف التي هبّت على بلاده والمنطقة.
لقد تبنّت الكويت، في عهده، دور الوسيط بين الفصائل اللبنانية، وكذلك بين الأفرقاء المتناحرين في اليمن، وكان له دورٌ أساسي أيضاً في تسوية الخلافات بين بنغلاديش وباكستان، كما سعى جاهداً لإعادة قطر إلى الحضن الخليجي. وقد استرعت جهوده الدؤوبة الرامية إلى لم الشمل بين الدول والشعوب، انتباه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كرّمه بمنحه وسام الشرف المرموق تقديراً لـ"وساطته التي لا تكل في تسوية النزاعات".
وكان الأمير الراحل صاحب أيادٍ بيضاء معروفاً بمساهماته الإنسانية، وقد كان موضع ثناء شديد من الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والعديد من الأمناء العامين الذين تعاقبوا على الأمم المتحدة. وكان اللاجئون السوريون من أكثر المستفيدين من سخائه. وعقب الانتفاضة التي شهدتها مصر في عام 2013 والتي أدّت إلى الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في وقتٍ كانت القاهرة تعاني من انهيار اقتصادي وتتجه نحو الإفلاس، انضمت الكويت إلى السعودية والإمارات والبحرين لتقديم رزمة مساعدات إلى مصر فاقت قيمتها 12 مليار دولار أمريكي.
يشعر المواطنون الإماراتيون، لاسيما أبناء جيلي، بأنهم قريبون جداً من الشعب الكويتي الذي تقاسمنا معه الرغيف خلال حرب الخليج في عام 1991. وقد وقفنا جنباً إلى جنب مع الكويتيين والشركاء الآخرين في التحالف في أرض المعركة من أجل إلحاق الهزيمة بالجيش الذي أرسله صدام حسين لاجتياح الكويت. وقد سُررت باستضافة مواطنين كويتيين في فندقي إلى حين تمكّنهم من العودة إلى ديارهم.
وكان للذكريات التي احتفظتُ بها من طفولتي في المدرسة دورٌ في ذلك أيضاً. في الحقيقة، كنت أكره أن أبقى محتجزاً في المدرسة في حين أنه كان يمكنني أن أخوض سباقات على ظهر الجِمال، وأن أركض في الحقول مع صقري وكلبي لاصطياد طائر الحبارى، وأن أغطس في المياه، لكنني كنت ممتناً جداً للمعلّمين الأكفياء الذين كانت الكويت ترسلهم للمساهمة في حصولنا على تعليم جيد وراسخ. كانوا مصدر وحي لنا، ولذلك نحن ندين بالكثير للكويت.
لطالما أولت الكويت أهمية كبيرة للتعليم. لديّ عدد كبير من الأصدقاء الكويتيين ذوي التحصيل العلمي الجيد والاطلاع الواسع والفصاحة في الكلام. إنهم حقاً أسياد النقاشات الذكيّة والمحفِّزة للفكر. أتمنّى لهم ولجميع الكويتيين أن يبقى إرث الشيخ الصباح محفوراً لسنوات وسنوات في قلوب وعقول مَن سيتعاقبون على الحكم بعده. لقد أرسى أسس مجتمع حديث ومتسامح، وقد حان الوقت للبناء على مرتكزات الإنصاف والعدالة التي كان له الفضل في تثبيت دعائمها.
فيما أودّع شخصية استثنائية قادت بلادها بحكمةٍ وأمان وسط العديد من العواصف الهوجاء، أتقدّم أيضاً بالتهاني إلى ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح على تنصيبه أميراً للبلاد وأتمنّى له التوفيق في دوره الجديد. فليُسدّد الله عز وجل خطواته ويثبّت خطاه في مسيرة السلام والعدالة والازدهار!