من أبرز التداعيات التي أوجدتها جائحة «كوفيد 19» على أرض الواقع أنها خلقت العديد من الانقسامات بين أفراد المجتمع في مختلف أنحاء العالم، فيما يتعلق بدرجة تأثر كل فرد بهذه التداعيات، ردة فعله حيالها، مستويات التزامه بالقواعد الجديدة التي فرضتها الجائحة للحيلولة دون الإصابة بعدوى فيروس «كورونا» المُستَجَد المسبّب لها، كقواعد التباعد الاجتماعي، ارتداء الكمامات والقفازات، استخدام المطهّرات والمعقّمات.. وما إلى ذلك.

ولعلنا لا نبالغ إذا ما تمادينا في وصف هذه الحالة من الانقسامات وذكرنا أنها باتت أقرب إلى التصدعات والتشققات. وليس ثمة محل للإعراب لأي اتهام بالمبالغة، ويكفي للتدليل على ذلك التذكير بحوادث مشابهة عدة وقعت خلال الأشهر الأخيرة في أماكن متفرقة من العالم، وانتهت جميعها بجريمة قتل بسبب ارتداء الكمامة أو عدم ارتدائها. والسيناريو شبه واحد في هذه الحوادث كافة: شخص ما شديد الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي يشاء حظه العاثر أن يتواجد في مكان واحد مع شخص آخر شديد الاستهتار، ولا يرتدي كمامة، فيطالبه بارتدائها فيأبى، فتندلع مشادة كلامية سرعان ما تتطور إلى مشاجرة، تنتهي بأن ينقض الثاني على الأول فيرديه قتيلاً.

إذن، نحن بالفعل أمام حالة تصدع وتشقق حادة بين مختلف أفراد وفئات المجتمع في موقفهم من الجائحة. ثمة البعض يرفض الاعتراف بوجود الجائحة أصلاً، ويرى أنها مؤامرة مُدبّرَة مسبقاً لدوافعٍ ما سياسية أو اقتصادية خفية.

تقتضي الواقعية منا أن نعترف بوجود هذا الانشقاق المجتمعي الحاد، بل ويقتضي المزيد من الواقعية أن نتعايش معه ونتهيأ لاستمراره، طالما استمرت «كوفيد 19» ولم يُفلِح العلماء في إيجاد لقاح شاف كفيل بوقاية البشر من شرها. ولحين حدوث ذلك، فسنظل نعيش في عالم نصف مفتوح، تخضع فيه كل تحركاتنا وأنشطتنا لقيود واشتراطات صحية.. عالم تحكمه قواعد التباعد الاجتماعي، ولا يوجد الآن ثمة مكان في العالم يستقبل مرتاديه بحرية كاملة ومن دون قيود، كما كان الحال قبل تفشي الجائحة.

وشأنه شأن أي عالم آخر، سيكون في ذلك العالم نصف المفتوح رابحون وخاسرون، أو فلنقل مستفيدون ومتضررون، والمستفيدون بامتياز في عالم «كوفيد 19» هم من يعيشون بمفردهم أو يعيشون مع أزواجهم ولكن من دون أطفال. لم تتأثر حياة هذه الفئات كثيراً بتداعيات الجائحة، والكثير من متع الحياة ما زال متاحاً لهم، مع الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي بالطبع.. فهم على سبيل المثال لا يزالون قادرين على السفر، سواءً داخل بلادهم أم خارجها، ارتياد الأماكن العامة كدور العرض السينمائي، الحفلات الغنائية، ملاعب كرة القدم، وما إلى ذلك.

وعلى النقيض منهم تماماً، نجد أن العائلات ومن لديهم أطفال هم أكثر المتضررين من العالم نصف المفتوح الذي أوجدته «كوفيد 19». ويكفي أن خطط التنزه والترفيه للعائلة بأكملها، ليس لمدة يوم واحد، بل وربما للصيف بأكمله، مرهونة بعدم ارتفاع درجة حرارة طفل من أفراد العائلة؛ لأن هذا الارتفاع قد يكون ببساطة مؤشراً لإصابته بعدوى الجائحة.

ثمة مفارقة لافتة في هذا السياق، وهي أن العديد من الآباء كانوا قبل تفشي «كوفيد 19» يتهمون العصر الحالي بأنه غير صديق للعائلة، الآن وبعد التفشي، صار الاتهام حقيقة مؤكدة!

* كبير المعلقين المختصين بشؤون أمريكا لدى صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية