من يوم إلى يوم، وأخبار التكنولوجيا لا تنفك تحدثنا عن اكتشافات التكنولوجيا المذهلة التي تزداد رقعتها اتساعاً في كل مجالات الحياة ومناحيها، ومع هذه الوتيرة العالية، ثمة جانبان آخران متصلان بهذه الاكتشافات التكنولوجية، وهما جانبا الاقتصاد والتعليم، إذ لابد أن يسيرا معاً جنباً إلى جنب مع الإنجازات التكنولوجية في عملية الازدهار، وإلا فلا جدوى من هذه الأخيرة مهما بلغت من التطور.

أول إشارة في طريق تحقيق شمولية النظام المعرفي وتوغّله في كل شيء حتى يؤتي أؤكله ويحقق غاياته، كانت ذلك القرار الذي ينص على أولوية المهارات والمواهب في الحصول على الوظائف واعتمادها بدلاً عن روتين الأنظمة التقليدية العاملة بنظام الدرجات العلمية في منح الوظائف، وكان أثره كعدوى الوباء حيث بدأ في أمريكا، ثم ما لبث أن أصبح محل نقاش ودراسة لدى معظم الحكومات في العالم، أما ثاني إشارة، وهي مرتبطة بالإشارة الأولى وعلى السياق ذاته الذي يسعى إلى شمولية النظام المعرفي وربط آلياته بكل مناحي الحياة لتحقيق غاياته.

فهي إلغاء نظام الاختبارات التقليدية الخاصة بمراحل التعليم الدراسية، والدعوى في ذلك أنها تفسد الصحة العقلية للطلاب، وتتسبب في أحايين كثيرة إلى ظلم الكثير منهم، كما أنها ليست معياراً يمكن من خلاله الحصول على نتيجة صادقة فيما يخص مستوى الطالب العقلي وقدراته المعرفية وإمكانياته الإبداعية، إنها تبحث فيما هو أعمق من كل ذلك حيث تؤسس لمرحلة جديدة من التعليم ومخرجاته، وتؤسس لجيل جديد من الكوادر الوظيفية بناءً على القرار السابق الخاص بالمهارات والمواهب.

فمن حيث التعليم سيعمل مثل هذا على إلغاء تقنية التلقين الأبوي التربوية والتعليمية التقليدية السائدة التي خلّفت أجيالاً مصابة بداء الحصول على الشهادة، وتفتقر إلى العلم والقدرة على التفكير النقدي والعقلية الإبداعية الابتكارية، هذه الفكرة سوف تنتقل من مراحل التعليم المدرسية إلى فضاء أكثر رحابة.

حيث ستكون معياراً لدى المؤسسات الأكاديمية، وستلقى رواجاً واسعاً فيها ورويداً رويداً حتى تصبح آليات اكتساب العلم والتقييم في العملية التعليمية في كل المؤسسات، هي آليات اكتساب وتقييم عقلية وليست نقلية كما كان عهدها سابقاً.

بهذه الترتيبات يمكن تأثيث مؤسسات المجتمع العامة والخاصة بما يليق بدعوى العصر القائمة على انتهاج سبل النظام المعرفي، لتكون المخرجات متكافئة مع عظمة المشروع، وقابلة لفكرة أن رأس المال في النظام المعرفي هو الرأسمال البشري بناءً على تصور هو أن الجميع في المجتمع يملك إمكانيات ومواهب ومهارات وقدرات عقلية وتفكيراً إبداعياً يحقق وجود فرص متكافئة لجميع الأفراد من كل الفئات والتخصصات، إنها تحقيق للعدالة الاجتماعية وضمان لحماية الأفراد في المجتمع من أي ظلم.

لقد رأينا فظاعة تصور إقصاء الآلات للوجود البشري من حيّز المهن والأعمال، لكن الضامن الوحيد لتكافؤ الفرص وعدم الإقصاء، والاستبعاد لذلك الوجود البشري هو إعادة تأثيث المؤسسة التعليمية، بما يحقق استيعاباً لمخرجاتها ويضمن لها وجوداً في كل المجالات بشكل يوازي وجود الآلات ويساويه.

وإذا قلنا إن قرار الأولوية للمهارات والمواهب سيقصي الكثيرين من حيّز أسواق العمل وعالم الوظائف، فإن اعتماد آليات تعليم جديدة قائمة على الاكتساب والتقييم العقلي، ستحقق معادلة استحقاق جميع الأفراد للوجود في عالمي الوظائف والأعمال، بناءً على فكرة مفادها أن تعليمهم اعتمد على مهاراتهم العقلية وتفكيرهم النقدي ومواهبهم الإبداعية، ولم يعتمد على تفكيرهم النقلي ودرجاتهم في اختبارات التقييم النهائية التقليدية.

إن العالم اليوم في أمس الحاجة إلى المزيد من الأفكار والقرارات التي تحسّن من حالة الوجود البشري على هذا الكوكب، وتعزز من مناعة بقاء الإنسان على متنه وتخفف من معاناته، وعلى العالم أن يستجيب لهذه الحاجة الملحة في هذا الوقت بالتحديد لأننا أمام منعطف مهم في تاريخ البشرية، فالتكنولوجيا التي تزدهر يوماً بعد آخر ليست بالشيء اليسير الذي يمكن القول:

إن العالم عاش في فعالية مماثلة من قبل، إنها شيء جليل يستحق أن نتأمله وأما إنجازاته، وما يمكن أن يحققه من نجاحات في كل مجالات الحياة ومناحيها، فيمكن القول إنها باتت كالسلسلة التي كل حلقة فيها تضاف في كل يوم حلقة جديدة إليها وكل فكرة تنجب في كل يوم أفكاراً جديدة، وتؤسس لعلم مستقل قائم بنفسه مكتف بذاته مستغن عما سواه. وللحديث بقية.

* خبيرة اقتصاد معرفي