فعلت جائحة «كورونا» فعل الخميرة مع عجينة التحول البشري نحو التكنولوجيا، وبدلاً من الحديث من التحول في العقود الأخيرة من القرن الحادي والعشرين، صار الحديث في نفس السياق يتناول العقود القليلة القادمة من هذا القرن، إذ إن الانغماس في تجربة التحول كلياً صار وشيكاً، وعلى قاب قوسين أو أدنى من الشمولية لكل مناحي الحياة واتجاهاتها.

كل شيء نجده الآن، سيتم إعادة صياغته، بدءاً من أشكال التعاملات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والإعلامية، وكافة مجالات الحياة الإنسانية واتجاهاتها، وإذا كان الوضع الحالي قد فرض على الناس الانسحاب من مضامير الحياة الاجتماعية، فإن هذا الانسحاب يفرض الانطلاق إلى مضامير أكثر رحابة، من خلال أدوات أخرى، هي أدوات التكنولوجيا.

وإذا كانت الأسواق التقليدية لها حدود جغرافية ليس للإنسان تجاوزها بسهولة، فقد فرض التحول بفعل الجائحة، أولاً حالياً، وبدونها بعد زمن، الانغماس في تجربة جديدة لأسواقها، بعداً ليس له حدود جغرافية، أي أن النجاح الآن في هذه التجربة يمثل نجاحاً عالمياً بشكل أو بآخر، والتنافس تجاوز حدود المكان الذي عهدناه في الأشكال التقليدية، وصار بلا حدود، لولا أن الفارق الجوهري الذي يمتاز به الصعيد المحلي التقليدي، عن البديل الجديد، الذي يتصف بالعالمية، يكمن في وجود لوائح تؤطر وتنظم الحركة، ويتكافأ الجميع في الفرص التي يحصلون عليها في ظل تلك اللوائح، لهم حقوق تضمنها لهم، وعليهم واجبات يلتزمون بها، لولا أن التحولات الجديدة فرضت على الناس لوائح تلزمهم بواجبات، وليس لهم أي حقوق مضمونة من أي نوع كان، وكل ذلك لم يكن ليحدث لولا غياب الحوكمة التي تؤطر تفاصيل هذه التجربة والانغماس فيها.

تفرض التحولات الجديدة وجود موارد بديلة للدول، فإذا كان الناس سيضطرون، بفعل تجربة التحول، إلى ممارسة الأعمال بكل أشكالها عن بُعد، فإن على الدول أن تبحث في آلية إعفاء قطاع الأعمال من رخصة ممارسة أعمالهم في حال تم استغنائهم عن المواقع التقليدية التي يتخذونها مقراً لممارسة أعمالهم، وبدلاً من الاستمرار في استنزاف البنى التحتية للقطاعين العام والخاص، مثلاً، يمكن تنشيط قطاع مسرعات الأعمال والحاضنات التجارية، وتفعيل دورها، بتنظيم وإشراف من الحكومات، لتقوم بعملية احتواء للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، مثلاً، مراكز للأعمال مثلها مثل مراكز الأعمال في المناطق الحرة، وكذلك بالإمكان منح رخصة عمل من المنزل.

انتبهت دول أوروبا إلى مثل هذا وقامت بتفعيله من أجل أن تكون الدولة مع الناس في مواجهة الجائحة وما بعدها من تحولات، بدلاً من أن تكون مع الجائحة ضدهم. وكذلك الأمر بالنسبة لضرائب الأيدي العاملة داخل كل شركة، وضرائب الدخل وما إليه، يجب على الحكومات إعادة النظر فيها بما يتوافق مع وضع التحول، لأن الأمر بدون هذا التأطير الجديد، وإعادة صياغة منظومة القوانين الخاصة بالتحولات الجديدة، سيهلك الاقتصاد، وسيعمل على خسارة كل القطاعات، بلا استثناء.

إن الصورة التي تصف مشهد التحولات الجديدة، هي صورة لوحة سوريالية قد نلمس فيها إبداعاً مدهشاً، لكن لا يمكن لأحد أن يفهمه، أو يدعي ذلك، وليس من خيار تجاهها سوى تأطير هذه اللوحة للحصول على معنى، أي بالمعنى الواقعي الذي نرمز بها إليه، حوكمتها ووضع قوانين مناسبة لها، تضمن للجميع حقوقاً، وتلزم الجميع في الوقت ذاته بواجباتهم، لكن بدون الشعور الذي يشعر الجميع به الآن «التيه والضياع».

قد نعتقد أن ثمة فوضى، نعم، ولكنها بالتمعن، الفوضى الخلاقة، وهي ما يجبرنا على صنع تغيير جذري في أساليب حياتنا وطرائق معيشتنا، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، وسنكون في غاية الرضى عنها لو تمت حوكمتها، لأن الحوكمة تعني تحديد مصير، هو مصير حياة، لا مصير موت، مصير نجاح، لا مصير فشل وخسارة.

إن قادة المحركات الاقتصادية والاجتماعية، أعمدة المجتمعات كافة في المستقبل القريب، والذين يمكن الرهان عليهم منذ هذه اللحظة، هم «جيل الألفا» بلا شك، هذا الجيل لا يؤمن بالحدود، سواء كانت معرفية أو اجتماعية ثقافية أو اقتصادية.

وإذا كان التأطير من مبادئ الحوكمة، فالسؤال هو: كيف سنؤطر الحوكمة القادمة؟ وللحديث بقية.