ما العقل؟ سؤال قديم، وأجوبة كثيرة، سأضرب صفحاً عن كل ما قيل، وسأترك نفسي حرة فيما تذهب إليه في شأن العقل، توافقت مع ما قيل أم لم، دون ادعاء بأن كل ما أقدم لم يأت بمثله الأوائل.
أبدأ بالسؤال: ما العقل؟ وأجيب بالبسيط الواضح المتميز: مفهوم يشير إلى جهاز متصور لدى جميع البشر يسمح لهم بالتفكير، وإذ أقول: إن العقل مفهوم يشير إلى عملية التفكير بوصفه جهازها ومتصوراً فهذا لأني أعرفه من آثاره وليس من وجوده الموضوعي.
فالفرق بين مفهوم العقل ومفهوم الإنسان مثلاً فرق في طريقة الوجود. أستطيع ببساطة أن أقول: هذا هو الإنسان بشحمه ولحمه، وأشير إليه بإصبعي، إنه مفهوم قد جرد من الكائنات البشرية، أما العقل فإني أعرفه من آثاره، في الواقع أو في الخطاب. مفهوم سمح لهيغل أن يشير إليه بالقول، وهو يرى نابليون زاحفاً على ألمانيا: «ها أنا أرى العقل يمتطي حصاناً».
العقل يمتطي حصاناً، يعني أن لهيغل تصوراً خاصاً للعقل، رآه في صورة نابليون، نابليون الذي كُلف بصناعة تاريخ للحرية.
وحين سئلت عن دبي أجبت: إنها عقل العصر وقد صار مدينة. ماذا يعني أن دبي عقل العصر وقد صارت مدينة؟ يعني بأن العقل الذي شاد دبي، هو العقل الذي حقق مطلب روح الحضارة والتاريخ، فصارت دبي دالة على العقل الذي أنجزها.
وإن سأل سائل: ما هو هذا العقل الذي ظهر بظهور الحوثيين؟ الجواب إن الحوثيين هم ظهور العقل النكوصي الذي يسعى لإعادة التاريخ إلى الوراء، فهو إذاً يقع في تناقض مع روح العصر والحضارة الراهنة.
ولأن العقل النكوصي، عقل مناهض لروح التاريخ، وعاجز عن إعادة التاريخ، فإنه عقل عنفي ثأري، ومدمر لكل أسباب الحياة والتقدم. وكل عقل معاند لروح التاريخ في سيرورته، عقل مدمر للحضارة، ولا يفعل سوى صناعة الانحطاط التاريخي.
غير أنه من الحكمة أن نسأل، إذا كان العقل هو جهاز تفكير بمعزل الآن عن حكم القيمة الذي أطلق عليه، فمم يتكون؟ أو كيف؟
العقل: وحدة الدماغ والخبرة، يجب أن لا ننسى هذا أبداً. يجب أن لا ننسى أن الإنسان ينطوي على عضوٍ معقد قائم في الرأس، وفيه ملايين الخلايا المسؤولة عن المعرفة، وذات وظائف متنوعة، ومناطق متخصصة، وأي تخريب في هذا العضو يفقد الإنسان القدرة على كل سلوك عملي أو نظري.
يجب أن لا ننسى أن لا ذاكرة بلا هذا الجهاز المعقد والعجيب، كل حواسنا مرتبطة بالدماغ، كل سلوكنا مرتبط بالدماغ.
هذا الدماغ، جهاز استقبال وإرسال ومعالجة وتحليل وتركيب وتذكر واكتشاف وإبداع، وفي سيرورة عمل الإنسان وممارسته، يغتني الدماغ بخبرته أساساً، حتى ليمكن القول: العقل هو الدماغ المثقف، والذي يقوم بوظائفه السابقة الذكر، والقيام بتلك الوظائف التي نسميها التفكير.
العقل بوصفه التفكير - وهو لا يستطيع أن يحتفظ بالعالم الخام الذي خبره ويخبره يومياً إلا بنظام لغوي - يحتفظ به في ذاكرته، ويعبر على أساسه عن إرادته، ويكتب العالم بكلماته، نظام اللغة، واللغة تسمح بإصدار الأحكام، وصياغة المفاهيم، التي هي أحكام مضمرة، وصناعة التصورات، وكل هذا ثمرة وحدة الدماغ والخبرة.
هل يمكن القول: إن العقل هو احتفاظ الدماغ بالخبرة، في حدود ما، نعم، لكن العقل فاعل بوحدة الدماغ والخبرة، إنه يطلق الأسماء على الأشياء، يحل معضلات ويخرج من مشاكل، يصنع التصورات، لكنه لا يستطيع أن يتجاوز خبرته الواقعية حتى في صياغته للخرافة.
العقل الصانع للتاريخ ليس هو العقل الماضوي، ليس هو العقل الذي يقع أسير خرافاته الأيديولوجية، بل هو العقل الذي يفكر بالمستقبل ويصنعه وفق ذروة التقدم التاريخي.