من أبرز معالم الجدل الذي رافق -ولا يزال- جريمة قتل مدرس التاريخ الفرنسي صامويل باتي الذي عرض الرسوم المسيئة للرسول الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، القول بغياب تشريعات أوروبية أو دولية تحظر الإساءة إلى رموز المسلمين الدينية ومعتقداتهم وتجرّمها، على غرار تجريم العنصرية ضد ذوي البشرة السوداء أو غيرها، أو تجريم انتقاد اليهود ومعاداة السامية، أو إنكار المحرقة ضد اليهود إبان الحكم النازي، أو حتى التشكيك في أعداد ضحاياها. وقد تردد هذا القول على ألسنة العديد من الكتاب والمثقفين ورجال الدين، ورغم وجاهة هذه الحجة ومصداقيتها، إلا أنها في تقديري المتواضع وقفت في منتصف الطريق، واحتجبت عنها الإجابة عن السؤال الرئيسي في هذا الجدل، كيف وصلت المجتمعات الغربية والأوروبية إلى مثل هذه التشريعات وإقرارها، وما العناصر والعوامل والفاعليات التي جعلت من صدور مثل هذه التشريعات أمراً ممكناً؟

لقد وقفت وراء إصدار مثل هذه التشريعات منظمات قانونية وحقوقية وسياسية تمتلك آليات وبرامج عمل يشارك في وضعها العديد من الخبراء والمؤرخين والباحثين والمثقفين الذين يرصدون وقائع انتهاكات حقوق المواطنين، إن من غير الأوروبيين أو من اليهود، والذين انتظمت أعمالهم وممارساتهم وفاعلياتهم في أطر للحركة المدنية والسياسية، وتمكنوا من إيصال أصواتهم للإعلام وعرض قضاياهم بأشكال وأساليب مستوحاة من الفضاء السياسي الغربي، الديمقراطي، يرتكز أول ما يرتكز على القانون والحماية التي يكفلها والدستور، الذي يؤطر هذه الحماية، وتم اعتماد الأساليب السلمية في التعبير والتخاطب وطرح المطالب وتعبئة الرأي العام لمساندة هذه القضايا، والحصول على تعاطفه مع هذه المطالب، وذلك فضلاً عن العمل بلا كلل للدخول إلى المراكز المؤثرة في صنع القرار.

المسلمون الذين يقيمون في بلدان غير إسلامية والذين يقرب عددهم من نحو ثلث عدد المسلمين في العالم، عليهم أن يضعوا في اعتبارهم ونصب أعينهم ذلك المسار، الذي اعتمدته العديد من الأقليات العرقية والدينية، وأن يستوعبوا هذه المحطات التي مر بها، وفوق ذلك، التصور والإدراك الذي وجّه هذا المسار وضمن له النجاح والفاعلية، ويتطلب هذا الأمر إعادة النظر في أوضاعهم تجاه المجتمعات التي تستضيفهم، أي تبني سبل النضال الديمقراطي السلمي لتحسين أوضاعهم والحؤول دون تهميشهم وتدعيم تأثيرهم وفاعليتهم في هذه المجتمعات، واحترام القوانين والأنظمة المعمول بها، والمطالبة بالمساواة.

الجريمة الإرهابية البشعة التي ارتكبها الإرهابي القاتل بحق المدرس الفرنسي أثارت الفزع الرسمي والشعبي الفرنسي وغير الفرنسي، رغم أن عدد ضحاياها شخص واحد، بعكس الجرائم الإرهابية الأخرى، والأسباب الكامنة والظاهرة وراء هذه الفزع يأتي في مقدمتها أن الجريمة راح ضحيتها مدرس في بدء العام الدراسي، ولنا أن نتصور ما يفكر فيه أولياء الأمور من كافة الفئات من مشاهد أخرى قد تلحق بأبنائهم وبناتهم وهم في رحلة البداية مع الحياة والمجتمع.

أما ثاني هذه الأسباب فيتمثل في أن هذه الجريمة تعني قيام أحد الأفراد بتنفيذ العقوبة بحق من تصور أنه أساء إليه دوناً عن نظام العدالة القانوني الرسمي والمفوض من الشعب والمؤسسات للحكم والتنفيذ.

وحتى بافتراض تعثر اندماج الجاليات الإسلامية في المجتمعات التي تقيم بين ظهرانيها - إن بسبب عدم توفر الرغبة أو القدرة على الاندماج، أو بسبب عمق الاختلاف، فإن الإرادة والتصميم وتحديد الهدف النهائي والحاسم في التعايش والانخراط في بنية النظم والقوانين المعمول بها، سيفضي إلى الاحترام وتحقيق هذه الأهداف.

أما السبب الثالث وليس الأخير في نظر الكثير من الفرنسيين على المستوى الرسمي والشعبي فيتمثل في تنكر الإرهابي للضيافة الفرنسية التي استقبلته صغيراً في عمر ستة أعوام، وشب عن الطوق في رعاية الدولة الفرنسية، والمؤكد أنه تعلم في مدارسها، وحصل على أشكال مختلفة للعون المادي والمعنوي، ومع ذلك فإن النواة الفكرية الإرهابية التي تملكته وسيطرت عليه خلقت منه دمية مشوهة لا تعرف سوى القتل.

لو افترضنا أن ثمة مؤامرة على الإسلام -ونحن لا نعتقد في ذلك- فمهما فعل أولئك المغامرون المفترضون، ومهما دفعوا من أموال، فلن يستطيعوا إلحاق الأذى بصورة المسلمين، وخلط الأمور وتعميق الالتباس.

من بين المسلمين الذين يقيمون في الخارج أقل من 10 % منهم هم، الذين على خط التماس مع منظمات الإسلام السياسي، أما الباقون فهم بلا شك ضد هذه الجرائم، ويأملون في الاندماج والاستقرار في المجتمعات التي تؤويهم. ومن ناحية أخرى، فقد قدمت هذه الجريمة أوراقاً جديدة لليمين الشعبوي والعنصري في أوروبا لتدعيم مصداقية خطابه حول الحظر الإسلامي، واضمحلال الحضارة الأوروبية. بلا شك أن الإصرار على الدفاع عن هذه الرسوم المسيئة للرسول الكريم تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير، موقف يجرح مشاعر كافة المسلمين، وإذا كان ماكرون قد استند إلى مبدأ حرية الرأي والتعبير واعتبر هذه الرسوم تنخرط في هذا المبدأ، فإن ذلك لا يعنى أن هذا المبدأ يحظى بالإجماع، بل مختلف عليه في الفكر والثقافة الفرنسية.

* كاتب ومحلل سياسي