«القوة الناعمة» مصطلح قد يشير إلى التسامح، وقد يشير إلى القوة المعرفية، و«القوة الناعمة» إجمالاً تعني أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات التسامح والبنية التحتية والثقافة والفن، ما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره.
وتعتبر تجربة اليابان تجربة ثرية وتقول الكثير حول هذه القوة، فبعد الحرب العالمية الثانية، استطاعت اليابان أن تحول جميع خسائرها إلى أرباح من خلال السير في منهاج «القوة الناعمة»، فالتسامح بشكل أو بآخر مرتبط بالمعرفة والتسلح المعرفي، وبدلاً من الانشغال بالماضي قامت اليابان بتطوير نفسها علمياً ومعرفياً واقتصادياً، وقامت بتقديم الدعم اللازم لمجالات علمية والبنية التحتية والثقافة والفن، واستطاعت خلال فترة غير طويلة من الزمن أن تصبح من أقوى وأهم الدول في العالم اقتصادياً ومعرفياً، وأجبرت حتى من كانوا لها أعداءً على الانحناء احتراماً وإجلالاً لعظمة تجربتها التي لم يكد يمر عليها سوى خمسين عاماً فقط.
اليابان، لمن لا يعرف، جُزر بركانية ليس لها موارد طبيعية يمكن الحديث عنها، لكن أهم استثماراتها كانت في الإنسان والقوة المعرفية البشرية.
نهضت اليابان من خلال الأفكار البسيطة، والأبحاث المتواضعة، التي طورتها الحاضنات الابتكارية، وارتقت باقتصاد اليابان، ودفعت به إلى المقدمة في عالم التصنيع، سواء في صناعة السيارات، أو الحواسب الإلكترونية، وما زالت الحاضنات تلك، حتى اللحظة، تقدم إلى الأسواق العالمية، نتاج تبنيها واستثماراتها للأفكار البسيطة، كل جديد، في التكنولوجيا تحديداً، وفي الصناعات الأخرى، التي اشتهرت بها اليابان أيضاً؛ والمثير حقاً، أن الحاضنات الابتكارية وفّرت لليابان القدرة على الاستثمار، في أكثر ما يفتقر إليه «المعادن»، ولكنها جعلته في المقدمة العالمية، في شأن تصنيعها.
تجربتان مهمتان على صعيد عالمي في مساق «القوة الناعمة»، هما اليابان ونظيرتها ألمانيا، وينطبق عليهما قول الفيلسوف الأمريكي رالف إميرسون «العالم بأسره يفسح الطريق لمن يعرف إلى أين هو ذاهب»، وما ذلك إلا لأنهما كانا يعرفان إلى أين هما ذاهبان، ولأنهما كذلك، فقد قام العالم بالفعل وأفسح لها المجال، وأخلى لهما الطريق، وهو طريق القمم والأعالي.
التعدد الديني في اليابان لم يمنعها من التميز عالمياً، ولم تختلف فيما بينها بسبب ذلك التعدد، وكذلك أصدرت مجموعة من التشريعات التي تخص التعليم وتلزمه، وتنظم عملية الإنجاب بما لا يعيق عملية التنمية والاستصلاحات التي تبنتها، والخطة المنهجية التي انتهجتها على الأصعدة كافّة.
النموذج الآخر، عدا اليابان وألمانيا، والذي يمكن الحديث عنه في سياق الحضارة وبنائها بأدوات «القوة الناعمة»، هي الإمارات التي تحتفل باليوم الوطني الـ 49، فدولة الإمارات التي تحكمها قيادة حكيمة ومتفانية، تعرف جيداً ما هي الأسس الحقيقية لنهوض أي حضارة بشرية، فدعم الاقتصاد المعرفي البازغ، والاستثمار في البنية التحتية، والاهتمام بالثقافة والفنون، إضافة إلى تعزيز قيم التسامح والتعايش، والإيمان بالتنوّع، والثبات على المبادئ ومكارم الأخلاق، وهذا ما جعل دولة الإمارات في مصاف أعظم دول العالم حضارياً واقتصادياً، وهذا التطور ما زال يكبر وينمو في كل يوم أكثر فأكثر، وهو ما لا يملك العالم تجاهه سوى أن ينحني ويرفع القبعات.
إن دعم البحث العلمي والمعارف بكل أنواعها، والاهتمام بمؤسسات التأهيل والتدريب، ودعم المواهب الشابة والمؤسسات الثقافية والفنون والتسامح، والبحث عن الموهوبين في كل المجالات، هو تعبير عن السير في طريق «القوة الناعمة» الذي تنتهجه أي دولة، ويجعلها مثالاً للرقي، ونموذجاً حضارياً تحتذي به كل دول العالم، والإمارات تخطو بثبات على هذا النهج لتكون رائدة في مجال «القوة الناعمة». وختاماً نقول: يوم وطني مجيد لدولة الإمارات العربية المتحدة. وللحديث بقية.
* خبيرة اقتصاد معرفي