بدءاً، دعونا نتخيّل أننا على متن طائرة في السماء، جالسين في ارتياح، بعضنا يأكل، وبعضنا يشرب، وبعضنا يلعب، وبعضنا يغفو، وبعضنا يفكر في الأعمال التي سيقوم بها عندما ينزل، ثم فجأة نكتشف عن طريق رسالة مسجّلة في مكبرات الصوت أن غرفة القيادة فارغة، ثم يقودنا الطيار الآلي إلى مطار لا يزال قيد التخطيط، ولم يجهز بناؤه بعد! ربما تكون هذه الصورة مخيفة، لكنها تعبّر عما نعيشه من غياب للحوكمة في هذا العالم الرقمي. نحن خائفون من غياب الحوكمة، وقبل ذلك خائفون من غياب معرفة ما الذي يمكن أن نواجهه غداً في ظل هذا الغياب.
إن الانغماس في تجربة التحوّل كلياً نحو العوالم الرقمية صار وشيكاً، وقاب قوسين أو أدنى من الشمولية لكل مناحي الحياة واتجاهاتها، تعززه عملية التباعد الاجتماعي الذي تفرضه جائحة «كورونا»، وما يستجد كل يوم من تبعاتها وآثارها.
وعلى أية حال فكل شيء نجده الآن سيتم إعادة صياغته ليتواءم مع معطيات التكنولوجيا ووسائلها، بدءاً من أشكال التعاملات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والإعلامية وكافة مجالات الحياة الإنسانية واتجاهاتها.
وإذا كان الوضع الحالي قد فرض على الناس الانسحاب من مضامير الحياة الاجتماعية، فإن هذا الانسحاب، يفرض أيضاً، في الوقت ذاته، الانطلاق إلى مضامير أكثر رحابة من خلال أدوات أخرى هي أدوات التكنولوجيا، وإذا كانت الأسواق التقليدية لها حدود جغرافية ليس للإنسان إمكانية في تجاوزها بسهولة، فقد فرضت التحولات، بفعل الجائحة أولاً، وبدونها بعد زمن، الانغماس في تجربة جديدة لأسواقها بعداً ليس له حدود جغرافية، أي أن النجاح الآن في هذه التجربة يمثل نجاحاً عالمياً بشكل أو بآخر؛ لأن سياق هذه التعاملات يعتبر سياقاً مفتوحاً، كما أن التنافس في جميع المجالات يتجاوز حدود المكان التي عهدناها في الأشكال التقليدية، وصار بلا حدود لولا أن الفارق الجوهري الذي يمتاز به الصعيد المحلي التقليدي عن البديل الجديد الذي يتصف بالعالمية، يكمن في وجود لوائح تؤطّر وتنظم الحركة، ويتكافأ الجميع في الفرص التي يحصلون عليها، كما يتساوون في ظل تلك اللوائح، من حيث لهم حقوق تضمنها لهم، وعليهم واجبات يلتزمون بها، لولا أن التحولات الجديدة فرضت على الناس لوائح تلزمهم بواجبات، وليس لهم أي حقوق مضمونة من أي نوع كان، وكل ذلك لم يكن ليحدث لولا غياب الحوكمة، التي يفترض أن تؤطّر تفاصيل هذه التجربة والانغماس فيها.
وكما يظهر فأقصى ما تفعله الحكومات اليوم، هو محاولة إجبار شركات التكنولوجيا على انتهاك خصوصية العملاء والمستخدمين لخدمة أغراضها وأهدافها، أما من حيث وجود نصوص وتشريعات تؤطّر الحركة في هذا العالم الافتراضي المفتوح، وتؤمّن المستخدمين والمرتادين له والمشتغلين في حقوله بطريقة المسؤولية والالتزام، بحيث إن لهم حقوقاً وعليهم واجبات، فهذا ما يفتقر إليه الفضاء الرقمي عموماً.
إن تفعيل الأمن السيبراني في هذا الفضاء الرقمي يشكل نقطة مهمة في سياق البحث عن إجابات لدواعي غياب الحوكمة، وقد يخفف ذلك من وطأة غياب الوعي في الممارسة الرقمية بكل تنوّعاتها ومجالاتها، فإن كان الوعي غائباً فحضور شيء من الحوكمة، يجب بالضرورة ألا يغيب على الأقل، حتى تكتمل التفاصيل الشكلانية لمؤسسات حوكمة العالم الرقمي في العالم.
إن الحضارة الإنسانية لم تزدهر في أي وقت، إلا بتكامل ثلاثة أركان تعمل مع بعضها بطريقة متوازية وفي سياق واحد، وأولها توافر أدوات الحوكمة وقوانيها الملزمة، ثم حضور أدوات صناعة الوعي والتثقيف والمعرفة، وأخيراً توعية الذات ومحاسبتها. ولا يمكن أن يكون لأي ركن فاعلية أو ذكر في سياق مستقل عن الأركان الثلاثة متساوقة معاً، ولأجل ذلك لا يمكن الحديث عن أي نهضة في العالم الرقمي أو التكنولوجيا في ظل غياب الحوكمة والوعي الإنساني الذي تصنعه المعرفة. وللحديث بقية.
* خبيرة اقتصاد معرفي