خارج مكوناتها الأساسية، يمكن اعتبار التجارة فعلياً الحافز الاجتماعي الأساسي، الذي شجّع جنسنا على الخروج من القبلية إلى الشبكة العالمية المتطورة للغاية من المعلومات والتكنولوجيا والثقافة المشتركة، التي نعرفها اليوم، من خلال تطوير وتشغيل طرق مثل طريق الحرير، تمكنت الحضارات البعيدة المدى في الصين والإمبراطورية الرومانية من التواصل، ليس فقط من خلال تعزيز تجارة السلع الجديدة والغريبة، ولكن أيضاً تبادل وفهم الثقافات والأفكار المختلفة بشكل جذري.
ومع ظهور كل حقبة، تم إنشاء أعاجيب هندسية جديدة لتعزيز طرق التجارة العالمية، ومن الأمثلة الرائعة على ذلك القناة الكبرى، أطول نهر صناعي في العالم، والتي وصلت إلى شكلها الكامل في ظل سلالة «سوي» (581-618م) وتمتد حتى يومنا هذا إلى 1776 كيلو متراً، وتربط مدينتي بكين وهانغتشو بكل من النهر الأصفر ونهر يانغتسي.
بالإضافة إلى البنية التحتية، تم أيضاً تطوير تقنيات جديدة لتوفير ميزة تنافسية للتجار والمستكشفين، الذين سعوا إلى الاستفادة من اقتناء وبيع السلع النادرة، وأبرزهم كريستوفر كولومبوس، الذي تمكن من القيام برحلته الشهيرة عام 1492، وما تلاها من ارتباط مع العالم الجديد، بفضل سفن أسرع وأقوى ومعدات ملاحية فائقة.
تحتل التجارة مكانة مركزية في تطورنا لدرجة أنه حتى أصل الكلمات والعبارات الشائعة، التي لا تزال مستخدمة حتى يومنا هذا، يمكن إرجاعها إلى التقاليد والعمليات التجارية.في عهد الإمبراطورية الرومانية كان الملح يُعتبر سلعة ثمينة، لدرجة أنه كان يستخدم جزئياً لدفع رواتب الجنود، فكلمة (Salt) باللغة الإنجليزية مشتقة من (Sal)، الكلمة اللاتينية للملح، وتعتبر كل من كلمة الراتب (Salary) وعبارة «لا يستحق ما يجنيه» (Not worth his salt) مشتقات مباشرة من هذا الشكل من التبادل.
وبطبيعة الحال، جاء تطوّر الثروة والسلطة كونه نتاجاً ثانوياً للتجارة، ما قاد في النهاية إلى فجر الرأسمالية وتشكّل الأعمال التجارية الدولية، التي يمكن مقارنتها بالعديد من الشركات متعددة الجنسيات اليوم؛ وأبرزها شركة «الهند الشرقية الهولندية» في عام 1602، التي يُنظر إليها على نطاق واسع كونها أول شركة عملاقة أو تكتل أولي في العالم.
والتي لم تكن فقط أول شركة تعرض سلسلة إمداد عالمية متكاملة رأسياً، ولكن أيضاً أول شركة مدرجة في العالم، من خلال إصدار السندات وشهادات الأسهم للجمهور.
بمرور الوقت، أدى حجم التجارة المتزايد باستمرار إلى تغييرات واسعة في سلوك المستهلك، حيث أصبحت السلع غير المحلية من السلع الأساسية، ما أدى إلى أن تصبح أشكال معينة من التجارة ضرورية فعلياً للمعايير الناشئة حديثاً للحياة اليومية. في تلك المرحلة، أصبحت السياسة العالمية متشابكة مع التجارة.
حيث كانت إحداهما قادرة على استخدام الأخرى كونها حافزاً أو رادعاً، بدءاً من النزاعات بين الدول مثل الحظر في عام 1807 بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، أو تجاه قضايا أوسع مثل عقوبات الأمم المتحدة على إيران في مواجهة برنامجها النووي. وفي أسفل قائمة العقوبات التجارية والحظر يأتي تكتيك الدعاية الأكثر اعتدالاً وذو الدوافع السياسية؛ وهذا هو ما أحرص على تناوله اليوم.
منذ دخولها إلى المسرح الدولي كونها مركزاً تجارياً عالمياً قبل عقود عدة، تحملت دبي نصيبها من الإثارة. مع توصيمها بسمعة أنها جنّة للعوبين ووجهة للانحلال، فقد كانت دائماً تجتذب نصيبها من المنتقدين، ولكن في السنوات الأخيرة ازداد هذا النوع من الخطاب بشكل مطرد، وليس من قبيل الصدفة أن يكون ذلك في ظل النجاح المتزايد للإمارة.
لحسن الحظ، فإن معظم انتقادات اليوم لدبي هي محاولة برجوازية صغيرة لتشويه سمعتها، على أمل أن يتغاضى التجّار عن العروض غير الملائمة ونفاق المراكز التجارية التي تركوها وراءهم بضمير حي. إن نجاح دبي المستمر، لا سيما في أسواق المعادن الثمينة والماس، هو مثال ساطع على كيفية انتهاء عصر احتكار «فيات».
بالنسبة إلى أي من قرائي المنتظمين، ستعرفون أنني كتبت على نطاق واسع حول موضوع المعاملة المتحيزة من المنظمات غير الحكومية والهيئات التجارية و «الصحفيين» على حد سواء، إلا أن ذلك لم يمنعهم من استهداف دبي دون حتى أن يُلقوا بالاً، لأن يذكروا ما نقوم به للتصدي للتحديات العالمية التي نواجهها بشكل جماعي، ولا كيف تتخذ دبي زمام المبادرة لوقف تدفق السلع غير المشروعة لمصلحة المجتمع الدولي.
في مقال صدر أخيراً بعنوان «كل ما يلمع: نظرة على شبكات الذهب غير المشروعة»، كما نشرته صحيفة «ديلي مافريك»، تركّز كاتبته على المشكلة مع بلدها الأصلي قائلة: «ظهرت جنوب أفريقيا كونها نقطة عبور رئيسة لمهربي السبائك، الذين يرغبون في نقل المعدن الثمين من وإلى أحد أكثر اللاعبين فاعلية في صناعة الذهب في العالم- دبي».
وبعد الاستشهاد بالعديد من الاعتقالات التي قامت بها إدارة الإيرادات الجنوب أفريقية التي اختصار اسمها للأسف هو «سارس» (SARS)، يُسلّط المقال الضوء على التحديات التي يواجهها المهربون، الذين يحصلون على الذهب من جميع أنحاء القارة الأفريقية، ولا سيما زيمبابوي ومدغشقر، قبل استخدام جنوب أفريقيا نقطة انطلاق لنقل مهرباتهم إما بشكل مباشر وإما غير مباشر إلى دبي.
أولاً، من المهم أن يفهم الناس أن تهريب الذهب إلى دبي ليس سهلاً أو خالياً من المخاطر كما قد يدّعي بعض منتقدينا. بموجب القانون الاتحادي رقم 11 لعام 2015، يتم حبس المتوّرطين في التعامل بالمعادن الثمينة أو المجوهرات المصنوعة من الأحجار الثمينة دون وسم أو شهادة مناسبة من المؤسسات المعتمدة لمدة عام واحد و/أو تغريمهم ما بين 250000 درهم (68073.52 دولاراً) – 500000 درهم (136147.04 دولاراً).
على مدى السنوات القليلة الماضية وحدها، كانت شرطة دبي فعّالة للغاية في اعتقال ومحاكمة مهرّبي الذهب، الذين يحاولون إما استيراد وإما تصدير الموارد غير المشروعة أو استخدام المدينة مكاناً لعبورها. قبل بضعة أشهر فقط، ضبطت شرطة دبي عملية تهريب كانت تستخدم الأمتعة الدبلوماسية كونها وسيلة لتنفيذ أنشطتها من دبي إلى الهند.
باعتباره ذا سلطة قانونية ويتمتع بمستوى أكثر صرامة من الامتثال من نظيره في رابطة سوق لندن للسبائك، يعد معيار دبي للتسليم الجيد معياراً معترفاً به دولياً، يشترط على أعضائه الالتزام بممارسات التوريد المسؤولة وفقاً لقواعد مركز دبي للسلع المتعددة للعناية الواجبة القائمة على المخاطر الخاصة بالذهب والمعادن الثمينة.
كونها وجهة يتوجب عليها أن تذهب إلى أبعد الحدود لتوضيح التزامها بأفضل الممارسات الدولية، يتم التدقيق على أصحاب المصلحة في الصناعة بشكل متكرر ويطلب منهم تقديم تقارير واضحة عن أعمالهم من أجل استمرارية اعتمادهم. وعلى المستوى التعاوني، انضمت دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخراً إلى أحد عشر مركزاً آخر لتداول الذهب، بناء على طلب رابطة سوق لندن للسبائك لدعم الالتزام بأعلى معايير الصناعة.
في ما يتعلق بما تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة لتعزيز مكانتها مركزاً شفافاً للصناعة الأوسع، يتم حالياً تقييم معيار دبي للتسليم الجيد ليصبح سياسة اتحادية، ما يعني اتباع نهج وطني لا يتسامح مع تجارة الذهب غير المشروعة سيحصل على دعم وزارة الاقتصاد في البلاد، وبالتالي الحصول على مستوى معزز من الموارد لتحسين اليقظة في كل منعطف.
من موقعي، بعد قراءة هذا المقال وبعد التفكير في ما يتضمنه، خطر لي أننا لسنا وحدنا في جهود التعامل مع مثل هذه القضايا، نظراً لأن العديد من المهربين يفضلون استخدام السفر الجوي كونه وسيلة النقل المفضلة لديهم، فقد عدت إلى فكرة كنت قد شاركتها علناً في النسخة الثانية من منتدى دبي أفريقيا للمعادن الثمينة، الذي نظمه مركز دبي للسلع المتعددة وعقد في أكرا بعام 2016.
حيث دعوت علناً جميع شركات الطيران لفرض حظر على نقل الذهب باليد. من خلال دعم روّاد الصناعة مثل الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، من شبه المؤكد أن اعتماد سياسة «الشحن فقط» سيكون قفزة عملاقة نحو حل هذه المشكلة، ليس فقط بين أفريقيا ودبي، ولكن على النطاق الأوسع للصناعة العالمية.
بعد محادثة بنّاءة للغاية مع كاشف خالد، المدير الإقليمي لأفريقيا والشرق الأوسط في اتحاد النقل الجوي الدولي، فتح مركز دبي للسلع المتعددة محادثات لتنظيم سلسلة من ورش العمل المصممة لمواجهة التحديات، بينما يتم التواصل مع المجتمع الدولي وأصحاب المصلحة في الصناعة لعزل نقاط الضعف في أنظمتنا وتوفير جبهة موحدة أقوى.
سيكون أمراً رخيصاً بالنسبة لي أن أشير بأصابع الاتهام إلى العيوب المختلفة داخل إدارات الحدود أو وكالات إنفاذ القانون، التي تعمل بجد في جنوب أفريقيا لعدم كونها أكثر فاعلية، لذا بدلاً من ذلك، أقترح على جميع البلدان الجادة في حل هذه المشكلة أن تتواصل معي وتنضم إلى هذه المبادرة كونها خطوة تالية استباقية.
بصفتها دولة استحوذت في مرحلة ما على أكثر من 90% من سوق العملات الذهبية العالمية، والتي تشارك دولة الإمارات العربية المتحدة نظرة مستقبلية لرفع المعايير ومكافحة تجارة الذهب غير المشروعة، أود أن أشكر مراسلة صحيفة «ديلي مافريك»، كارين دوللي، على لفت انتباهي إلى جنوب أفريقيا.
إنني على يقين بأنه من خلال نهج أكثر توجهاً نحو إيجاد الحلول، فإننا قادرون تماماً على وضع مثال ثنائي لكيفية ردع و/أو القبض على المهربين المحتملين، لمنعهم من استخدام السفر الجوي لغسل سلعهم وخداع الاقتصادات المحلية لأفريقيا ذات الإيرادات الضريبية القيمة، مع إيجاد طريقة في الوقت نفسه، للقضاء على هذه الممارسة إلى الأبد.