لم ننتبه، في كتابنا الأنا، أن نقول قولاً خاصاً في الأنا الطفيلي، مع أن المتطفّل ذو حضور مزعج في حياتنا العامة، بل قد يصل الأمر به في بعض الأحايين إلى درجة يخفي على الناس خليقته فلا تُعلم.

وكلمة طفيل في العربية تقال على كل ما هو صغير في كل شيء، وهي في كل الأحوال تأتي بمعنى التصغير.

وقد سمّت العرب أبناءها بطفيل وهو مصغّر طفل، وهناك عشرات الأسماء في التاريخ باسم طفيل.

ولكن المعنى المرذول لطفيلي لمن لا يعلم، صفة منسوبة إلى شخص يدعى طفيل، وهو رجل من أهل الكوفة من بني عبدالله بن غطفان، كان يأتي الأعراس والولائم من دون أن يدعى إليها، فنسب إليه كل من يفعل فعله.

ومن اسمه اشتقت الأفعال والأسماء. ثم اتسع مفهوم «التطفّل» حتى صار ينسحب على كل فعل يقوم به المرء من دون أن يكون أهلاً له، واتسع أيضاً ليعني انشغال المرء بما لا يعنيه، وهنا يكمن وجه الخطورة في التطفّل، إذ صار ثقافة لا شعورية عامة، بحيث لم يعد العربي ينتبه إلى سلوكه التطفّلي تجاه الآخر. حتى صار التطفّل صورة للسلوك تجاه الآخر، على نحوٍ ظاهر جداً، أجل تظهر ثقافة التطفّل بوصفها نقيضاً لاستقلال الذات. ما الذي يحمل شخصاً على سؤال آخر رآه مصادفة في الطريق: إلى أين أنت ذاهب؟ وقد لا ينتظر جواباً، ولكن السؤال صار عادة، إنه سؤال تطفّلٍ بكل معنى الكلمة، سؤال ثقافة تطفّل.

يسألك من دون حرج: ما الذي يحملك على صداقة فلان، لماذا وافقت على إجراء حوار مع فلان.. وقس على ذلك من أسئلة التطفّل التي لا يراها السائل تطفّلاً، إنها ثقافة التطفل.

ها أنت مقدم على تنفيذ مشروع ما، وما إن يشيع الخبر حتى تأتيك النصائح المتناقضة، مما هبّ ودبّ من دون أن تطلبها من أحد. في النصيحة، يتطفل عليك شخص يعتقد بأنه أكثر دراية منك بالأمر، أكثر معرفة بالنتائج، أكثر حرصاً عليك من حرصك على نفسك.

ومن أسوأ أنواع التطفّل، تطفّل الأنا الناتج عن شهوة الحضور. وهذا التطفّل الخطير على أنواع، ونتائجه قد تكون كارثية.

فوجود المؤسسة الحكومية شرط من شروط قيام الدولة بواجبها تجاه المواطن، وكل مؤسسة متخصصة بجانب من جوانب الحياة العملية في المجتمع. كالتعليم والقضاء والأمن والثقافة.. إلخ. وكل مؤسسة تحتاج إلى أهل الاختصاص والخبرة من جهة وإلى صفات فردية داعمة للاختصاص من جهة ثانية.

تأمّل حال شخص لا علاقة له بأي صعيد من صعد الثقافة، وتحول إلى مسؤول عن الثقافة في بلد ما؟ هذا المتطفّل على الثقافة الذي لا يخجل من الناس، باستطاعته أن يدمّر الحياة الثقافية في سنوات قليلة. وقس على ذلك. إن ثقافة التطفّل، والحال هذه، تقضي على معايير الحق، كما تدمّر ثقافة الحياء من المجتمع.

ومن أخطر أشكال ثقافة التطفل السائدة الآن التطفل على الكتابة.

ولقد شهد الوطن العربي في الربع الأخير من القرن العشرين، وما زال حالة من التطفل على الكتابة لا مثيل لها بكل أنواع الكتابة. وبموضوعات ما أنزل الله بها من سلطان، فهذا يحدثك عن صديقه الجني ولقائه به، وذاك يحدثك عن قضايا حساب الآيات في القرآن، وثالث عن الماسونية وخطرها العالمي. ورابع وخامس..

وتأمل تطفّل الناس على مهنة أستاذ الجامعة: يحمل شهادة الدكتوراه من دون أن يعرف ما مضمون الرسالة التي تقدم بها لنيل الدكتوراه، ثم يتقدم للتدريس في الجامعة. تأمل أيها القارئ العزيز الكارثة المترتبة على ذلك.. إنها ثقافة التطفّل.

ثقافة التطفّل لا تعني سوى شيء واحد وحيد أنه لم تنتصر ثقافة الإنسان الحر الذي يعي وجوده الحقيقي ويسلك بمقتضاه، ويعترف بحرية الآخر، ويبني علاقته تأسيساً على هذا الاعتراف.

* كاتب فلسطيني