هل سمعتم بالكُنْتِيّون؟ يقول المعجم العربي: الكنتي هو الكهل الذي يحكي عن زمانه بكنتُ، والكنتيون جمع كنتي.
وإذا كنّا نتفهم حنين الكهل، الذي لم يعد قادراً على صناعة حاضره، إلى ماضيه والحديث عنه بكنْتُ، فإن الاستماع إلى من يمتلكون احتياطاً وفيراً من العمر وينتمون إلى الكنتين أمر يدعو إلى الدهشة.
والكنتيون على ثلاثة أنواع: كنتيون عاديون، وهم كنتيو مجالس السمر، ولا يخلو مجلس سمر من طقوس الحديث بكُنت.
والكنتيون الفاعلون في صعد الحياة، كمؤسسي الدول والأحزاب، والفاعلين في الأحداث الكبرى في الوطن والعالم، والمفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين والعلماء. وهؤلاء غالباً ما يكتبون ماضيهم في صورة السيرة الذاتية، وهي في عالمنا العربي سيرة منزهة عن الخطأ، إنها السيرة الحسنة، وهؤلاء الكنتيون يوفرون مادة للقراءة في كل الأحوال.
أما النوع الثالث فهم العابرون، الذين لا أثر لهم، ويعتقدون، شهوةً بالحضور، بأنهم من ذوي الشأن. وهؤلاء غالباً ما يكونون شفاهيين، ونادراً ما يكتبون كيف كانوا، وإن كتبوا فيكتبون سوالف متنوعة.
كلٌ منا يملك في ذاكرته صور أحداث مرت في حياته، وكلما تقادم بنا الزمن ازدادت الذاكرة ثراءً.
ويتفاوت الناس في أهمية صور ذاكرتهم، فمنهم من تكون ذاكرته محشوة بأحداث فردية خاصة لا يتجاوز تأثيرها عالمه الضيق، ومنهم من يمتلك ذاكرة شخصية، هي ذاكرة وطن لما له من موقع في الحياة السياسية والثقافية.
ومن الصعوبة بمكان أن تمنع أحداً من أن يحول ذاكرته إلى حديث يسرده أمام الآخرين، وخاصة ذلك الصنف من الناس الذي لم يعد لوجوده من معنى إلا فيما يختزنه من ذكريات.
يحول الكُنتي ذكرياته إلى وسيلة تأكيد الذات وحضورها، ومن أجل أن يزيد من حضورها ويغنيها بخيال خصب.
وإذا كان صحيحاً بأن السير الذاتية، أو ما يُطلق عليها الذكريات، تنتمي إلى الروح الكُنتية، فإن الناس يُقبلون على قراءة مذكرات النخب المهمة، سواء كانوا متعاطفين معها، أم كارهين لها. ففيها قد يجدون أجوبة عن أسئلة تحيرهم، أو يستمتعون بالنص، أو يستفيدون عبرة من هنا وعبرة من هناك.
بل إن المذكرات والسير الذاتية تمدنا بمعرفة كنّا نجهلها، سواء عن الشخص الذي مارس الحضور السياسي أو الثقافي، أو عن مرحلة يلقي الضوء عليها الكنتي. وعند هذا الحد يكون الأمر طبيعياً.
لكن تأمل أيها القارئ أن تكون مجبراً على سماع شخص كنتي يسرد لك ذكرياته الشخصية، ويسرد لك أسماء لا قيمة لها، ولا تعرف عنها شيئاً، وحوادث لا تعنيك من بعيد أو قريب، وبطولات قام بها، وأقوالاً تفوه بها كانت حاسمة، تخيل وضعك المأساوي وأنت بكل لطف لا تريد أن تجرحه، وتستمع إليه أو توحي له بالاستماع، وهو لا يتوقف لأخذ شهيق أو زفير.
وأثقل الظلال ظل شخص مر بزمانه في حالة سلطة محدودة ومتوسطة عند طاغية لا قيمة لها بأحداث الوطن. ولم يمكث فيها إلا بضع سنين تجاوز عددها عدد أصابع اليد.
فيحدثك عما قاله في الاجتماع، وكيف رد على فلان الذي لا ندري عنه شيئاً، وكيف تحدى فلاناً، وكيف أفحم فلاناً، وكيف تفوق على فلان، وكيف أحب فلانة، وكيف هجرها بعد ذلك، وعمن لقيه في الطريق إلى المكتب، وعمن زاره في المساء، وعمن وجد عنده من لفيف، وكيف تجرأ ونقد من كان في موقع أهم من موقعه.
لا شك أن الذكريات جميلة، ولكنها جميلة بالنسبة إلى صاحبها فقط. أو هي جميلة في سردها، إذا كان السرد بين صديقين حميمين نسجا ذكرياتهما معاً ويستعيدانها بنوع من الحنين.
أما ذكريات الآخر التي لا تعنيني فمالي ومالها. فالكنتيون الذين يعتقدون بأن ما كانوه أمر يغري السامع لا ينتبهون إلى أن ماضيهم الذي كانوه، ليس له قيمة معرفية أو أدبية لدى السامع أو القارئ.
أما الكنتيون الذين يتحدثون عن ماضيهم بكنا، فهم لا ينظرون إلى المستقبل كصناعة لما هو جديد.
* كاتب فلسطيني