وضع «أبو الديب» ساقاً على ساق، ثم نشر الصورة على «الفيسبوك» معلقاً: «الله يرحم أيام زمان».
الصورة لا تقول أكثر من رجل متكئ على كرسيّ، بقميص يوحي بأنّ الصورة التقطت ذات صيف، وبدا ثمة كرش صغير للرجل الذي يوشك على الضحك، أو ربما الابتسام للكاميرا. لا شيء في الصورة إلا أبو الديب، وبجواره طاولة بنية صغيرة استراحت على سطحها علبة سجائر.
إذاً، ما الذي يشغل بال كاتب إزاء صورة يلتقطها وينشرها كثيرون، وتعجّ بها وسائل التواصل الاجتماعي، ما المحيّر في الأمر، وماذا يعني أن يرتدي أحدهم قميصاً نصفَ كُم ذات يوم قائظ في يوليو؟
أبو الديب، وهذا لقبه وله منه النصيب الأكبر، ليس لديه ولد يحمل الاسم؛ فصاحبنا الجالس على الكرسي ذي القماش البيج، لم يقيّض له أن يُرزق أبناء، رغم طيبته المفرطة، وفيض الحنان المشعّ من قلبه، لكنه صبر وتحمّل، لأنّ الدنيا، كما يقول ليست عادلة، وحرمته من زينتها.
وجد في السجائر ضالته التي يشكو من خلالها نكد العيش، كان يحرق في اليوم منها أربع علب أو خمساً. ومع الأيام السّود في حياة أبي الديب، راحت أسنانه تتساقط حتى صار نطقه للكلمات مليئاً باللثغات، كما لو كان طفلاً يحبو ويهجس باللغة.
وجرى أن مرّت على الرجل أيام شديدة البأس أورثته السكّري، الذي ذوّب الكرش الصغير الذي كان يتدلى قليلاً من قماش القميص الأصفر، الذي يظنه المرء برتقالياً. ومع مرور الأيام ومرارتها أصيب بالفشل الكلوي، فاجتمعت في جسده الأمراض، حتى خيّل لمن يراه أنه مفارق الدنيا اليومَ لا غداً، لكنّه يحب الحياة، ويحرص على الذهاب إلى المستشفى لغسل الكلى ثلاث مرات أسبوعياً، رغم مخاطر «كورونا».
كان يقود، برفقة زوجته، السيارة المتهالكة، ثم أضحى بعد ذلك عاجزاً عن القيادة، فتولت الأمر السيدة المكافحة، التي يمطرها بتعليقاته المستغربة خوفَها من السيارات الأخرى، وإطلاقها الأبواق تلو الأخرى على السائقين والمشاة ومرّاق الطريق، وأضحت تلك التعليقات البريئة «فاكهة» المشوار إلى المستشفى.
يبقى أبو الديب، في الطريق إلى الغسل، يقهقه فيظهر ما تبقى من أسنانه وأضراسه، لكنه في العودة يكون ملقيّاً على الكرسي من فرط الإنهاك والألم، فلا ينبس إلا بالوجع.
صارت الآلام رفيقة أبي الديب، حتى لم يعد، منذ ثلاث سنوات، يقوى على أخذ نفَس سيجارة. إنه يحنّ إليه فيخذله جسده، لا سيما بعد أن ارتفعت نسبة السكر في دمه، فأتلفت شرايين ساقه، التي ذبلت وتحوّل لونها إلى الأسود، فاضطر الطبيب إلى بترها كونه إجراء أخيراً للحفاظ على سلامة الجسد، لكنّ الجسد لم يسلم، وظل يتلقى الطعنات ويقاوم.
وبدا أبو الديب مثل مقاتل إسبارطيّ يتكئ على رمحه، ويعضّ على جراحه، ويلوذ بذكريات العمر «الجميل» الذي أفناه في الكدّ والهمّ والشقاء. ومن بين ما يتذكر أبو الديب ساقه المقطوعة. اشتاق الرجل للمشي بلا عكازتين، اشتاق أن ينزل الدرج الضيق من دون أن يستعين بسكان الحي، واشتاق أن يقود سيارته الهرمة لشراء ساندويش فلافل، فيقضمه آخر الليل على مهل أسنانه.
وفي غمرة الشوق، عثر أبو الديب في «أرشيفه» على صورة له يضع فيها ساقاً على ساق، متكئاً بظهره القوي على جذع الأريكة، وهو يوشك على اصطحاب سجائره في جولة المرح قرب النافذة.
يضع ساقاً على ساق، هو أكثر ما يتوق إليه الرجل العليل الآن، وهو يلهج بالضراعة إلى أيام زمان!
*أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي