أثبتت أزمة «كوفيد 19» نسبية القطبية في قيادة العالم، فلا تُجدي أحادية القطبية، ولا الثنائية أو الثلاثية، حيث أبرزت أزمة «كورونا» نظاماً سياسياً مُتغير الأقطاب، ديناميكي القوى، يعتمد على قوة الدول في التفاعل والمرونة، والاستجابة للمتغيرات العالمية في وقت الأزمات، استجابة للموارد البشرية والاقتصادية، وطرق إدارة الحكومات لتلك المتغيرات السريعة.

النظام العالمي معروف بطبيعته المتغيرة دائماً، وذلك منذ بدايته، حيث شهدنا خلال القرن الماضي حقيقة أن معادلة التوازن العالمي قد تحولت من أحادي القطب إلى الثنائي إلى متعدد الأقطاب، ثم إلى ثلاثي الأقطاب، وذلك لتأثره بشدة بعوامل مختلفة عدة، مثل الاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية والتكنولوجيا.

بعد الحرب العالمية الثانية، شهدنا النظام العالمي ثنائي القطب المنقسم بين العملاقين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، ما أثر بقوة على النظام الجيوسياسي، مع تملك كل منهما النظام الاقتصادي المختلف، وعلى خلفية هذا النظام يؤيد كينيث والتز، العالم السياسي الأمريكي، مفهوم النظام الثنائي القطب، كما يصفه بأنه النظام السليم لسياسة العالم.

وفي السنوات التالية من 1989 إلى 2003 أصبح النظام أحادي القطب شائعاً جداً، من خلال تبني الولايات المتحدة الأمريكية دوراً مهيمناً في الشؤون العالمية، وسيطرتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي في العالم، ولكن في العام 2008 أثرت الأزمة المالية سلباً على هذا النظام الأحادي القطب، ومنذ ذلك الحين وعلى مدى العقد الماضي تم تقسيم القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في العالم، من خلال تبني نظام ثلاثي الأقطاب مع ثلاثة محركين رئيسيين هم: الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا.

أما بالنسبة لأوروبا، بإمكاننا تعريفها على أنها متعددة الأقطاب بحد ذاتها، معتمدة بشكل كبير على نظام الأقطاب الوطنية الموجودة مثل الألمانية، والفرنسية، والبريطانية، وأوروبا الشرقية، وما إلى ذلك. يمكن اعتبار أوروبا نوعاً من القطب الحضاري، ولكن ليس بتصنيفها قطباً سياسياً، حسب مقال نشره الأستاذ أليكسي مالاشينكو لمعهد أبحاث حوار الحضارات (DOC Research Institute).

أما بعد أزمة «كوفيد 19» فقد اختلفت تماماً تلك النظريات، وبات العالم يتأرجح بين أقطاب اللقاحات أو الإغلاق التام، أو التداعيات الاقتصادية العالمية.

لقد مر عام منذ أن أصابت الجائحة العالم بالشلل التام، حتى القوى العظمى في العالم، لم تكن قادرة على الاستجابة واحتواء الوباء، وقامت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوصفها بأنها «أكبر تحدٍ للدول في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية»، نتج عنه مرحلة من «النظام العالمي العاجز»، حيث تتولى كل دولة زمام الأمور بنفسها، ودخلت في حالة إغلاق، من أجل احتواء انتشار الوباء. وقال كونستانزي ستيلزنميلر، الزميل الأول في مركز الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز بواشنطن: «لقد ألقى الوباء الضوء القاسي على العيوب وأوجه القصور والإضرار بالنظام الدولي والنظام الوطني على حد سواء»، وهذا يجعلنا نتساءل بعد إعادة ضبط النظام العالمي، ما النظام الذي سيكون سائداً في حقبة ما بعد جائحة «كوفيد 19»، وما المحاور الأساسية؟

تقوم العديد من مراكز البحوث والدراسات السياسية حول العالم بالإجابة عن هذا السؤال المهم، حيث قام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS، بطرح دراسة حول تأثير الوباء على الساحة الجيوسياسية بين العام 2025- 2030، وكانت بعض الأفكار المطروحة كالتالي:

أولاً: قام «كوفيد 19» بتسريع وتيرة الانتقال إلى نهج الانغلاق من قبل الدول، ما ترك المنظمات الدولية ودورها في النظام العالمي في ظلام معتم.

ثانياً: لا يوجد فائز على خلفية الوباء، لا الولايات المتحدة ولا حتى الصين، مع استثناء عمالقة التكنولوجيا، الذين استفادوا بشكل كبير من تسريع التحول الرقمي.

ثالثاً: من المرجح أن يكون المشهد الجيوسياسي الجديد موجزاً للنظام متعدد الأقطاب، الذي قد يحتاج إلى التعاون والتكامل مع بعضه البعض.

وفي الختام، لا يسعنا سوى أن نتساءل، هل ستكون القوة العظمى القادمة في العالم ما يمكن تسميته «عمالقة البيئة»، حيث تكون البيئة هي الركيزة الرئيسية، خصوصاً مع توقع أن تكون الأزمة التالية مناخية، أم سنبدأ في رؤية التكنوقراطيين كونهم لاعبين رئيسيين، حيث التوجه العالمي إلى الرقمنة، وتصاعد التهديد في فضاء الأمن السيبراني على أمن الدول، أم أننا سنشهد نظاماً عالمياً جديداً وقصير المدى يسمى «القوة العظمى للقاح» إلى حين انتهاء الوباء؟!