يقف العطاء اللامحدود وراء كل عمل يشار إليه بالبنان. هذه القيمة العظيمة هي سر استمرارية المتألقين، والمخضرمين، والمتفانين في رحلة العطاء. فالمخضرم نفسه هو من احتك بجيلين، وسيكون محظوظاً إن حظي بعطاء من عاصرهم.
وهذا ما يمنح المخضرم مرتبة كبيرة في عيون من يدركون قيمته. غير أنه في بيئات الأعمال، يصعب ترك مسألة العطاء على الغارب، فهناك من يتعمد كتمان المعلومات المهمة. ومن هنا جاءت فكرة «نقل المعرفة».
فتجد في اللوائح الداخلية تفاصيل لكيفية انتقال المعلومات بين العاملين لضمان ديمومة حسن أداء المؤسسة. فالمعلومة ركيزة مهمة في الإنتاجية والإتقان والسرعة في الإنجاز، وترشدنا أحياناً لطرق مختصرة نحو أهدافنا.
ولذلك نجد أن التوجهات الحديثة بدأت تميل نحو وضع برامج إلكترونية أو برمجيات تنتقل عبرها الأعمال اليومية. ومن خلالها تحدث عملية توقيع واعتماد المعاملات. والأهم أنه يمكن في أي لحظة الرجوع إلى تفاصيل أي ملف في وقت يغيب فيه الموظف في إجازة أو استقالة مفاجئة.
والناظر إلى جوهر مسألة العطاء يجدها مبنية على البذل المستمر، غير أن ذلك أمر لا يقوم به الجميع، ومن يحظى بنعمة العطاء المتفاني ينال مزيداً من التقدير والاحترام. وما زلت أذكر ذلك الطبيب السعودي وهو يغادر المستشفى في آخر يوم عمل قبل التقاعد، وقد اصطف عن يمينه وشماله طابور طويل من زملائه وزميلاته الذين صفقوا له بحرارة. هذا المشهد ما زال عالقاً في ذهني لأنه رسم أبهى صور تقدير العطاء.
بعض الناس يعطي، لكنه ينتظر مقابلاً. ولذا سرعان ما تجده يتوقف عن بذل الخير فور ما يمتنع الآخرون عن رد الجميل. فمن يبنى عطاءه على نظام المكافأة يفاقم حالات إحباطه. وهو الدرس الذي استوعبه جيداً المعطاء فصار قدوة حسنة. ولذا تجد المعطاء في منزلة رفيعة لدى الذين قد يبادلونه المودة، وذلك لأنه يطبق حرفياً الحديث النبوي الشريف «ازهد فيما عند الناس يحبك الناس».
وروعة العطاء في أنه يورث السعادة في قلب المعطاء نفسه، ويشيع المودة بين الناس، كما أنه يرفع مستويات الأداء، فمنه ما يحسن جودة العلاقات والعمل. ويرتاح المعطي إذا تخلص من عقدة «الشغف بالإشادة» credit.
فالإشادة حق من حقوق المعطي، لكن هناك فرقاً بين انتظار الإشادة، وتقديم الخير من دون انتظار منة من أحد. فإذا ما كان السلوك جاحداً انقطع الفرد عن المضي قدماً بعطائه، وإذا ما كان متقطعاً كان صاحبها كذلك.
ومن جمال العطاء أنه يستر العيوب، حيث يقول الإمام الشافعي:
تستَّر بالسخاء فكلٌّ عيب يغَطيه كما قيل السخاء
فمنح الآخرين أوقاتنا، هو ذروة أشكال العطاء التي تستحق التقدير، فالوقت لا يمكن تعويضه ولا شراؤه، وهذه هي مشكلة المشكلات، كما أسلفنا، ومن منا يخلو من عيوب وأخطاء يرتكبها على مدار العام، ويرجو أن يتشبث بأي قشة تنتشله من حالة تذمر المحيطين به.
مؤخراً، قدم «نادي القيمة» في «كلوب هاوس» أمسية جميلة «بعنوان هل الحياة أخذ وعطاء؟» وهي التي استلهمت منها فكرة مقالي، وإجابتي عن هذا السؤال: أن الحياة أصلاً مبنية على العطاء، أما الأخذ فهو تحصيل حاصل، والأهم أن فاقد الشيء لا يعطيه، حتى في العطاء، فحينما يفيض المرء بالخبرات، والتجارب، والعلم، والحكمة وغيرها، فإنه عندئذ يستطيع أن يعطي الآخرين شيئاً منها. وهنا يصبح المرء قدوة حسنة.