ليس لركن في الإسلام فضلٌ عن الآخر، فهي منظومة متكاملة، حيث تتوخى الشريعةُ أن تنقل الإنسان من مرتبة الكينونة إلى ذرى السمو. وفي غمرة ذلك، تتجلى الآثار المترتبة على أية شعيرة. وكلما كانت الآثار تتعدى النطاق الفردي الخاص، أضحت أكثر امتداداً وعمقاً، ففي اللحظات الصعبة تُمتحن الأفكار الكبرى.

ويزداد التعويل الآن على الزكاة، ويُراد لها أن تمتد وتغدو رافعة تنقذ الناس من وهدة الفقر والعوز، وترقّيهم إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، لا بالصدقة وحدها، بل بالتمكين أيضاً، على قاعدة علّمني الصيد خيرٌ من أن تعطيني سمكة.

ولو شاء المراقب أن يقلّب التوترات التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي، على مختلف وجوهها، فإنه بلا شك سيكون في مواجهة جذر مشترك يؤلّب تلك التوترات وينفخ في بارودها المتفجر. إنه الفقر الذي استشعر الإمام علي بن أبي طالب، «كرّم الله وجهه»، فظاعته، فتاقَ لو كان الفقر رجلاً كي يقتله.

ومن شأن الاستطراد المفضي إلى التدليل على الترابط العضوي بين الفقر والجريمة، والفقر والإرهاب، والفقر والأميّة، والفقر والجهل، والفقر والتخلف الثقافي والاجتماعي، أن يذكّر ويعلّق الجرس بأنّ الفقر هو أسّ المشاكل جميعها في العالم كله، وبخاصة عالم العرب والمسلمين المفخّخ بالاحتقان الذي ينذر بأوخم العواقب.

وفي ضوء ذلك، أو في عتمته، يتعيّن أن تتدخل طاقة الإلزام الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية للدول والأفراد والأفكار والأديان والعقائد.

فلو أنّ معشر المؤمنين، وليس المسلمين وحدهم، ومعهم الجماعة اﻷخلاقية أيضاً، طبّقوا على نحو جوهري وخلّاق اﻵية الكريمة «والذين في أموالهم حقٌ معلوم، للسائل والمحروم» لجرى القضاء على مشكلة الفقر في العالم. وهنا تتحقق مقاصدية الأديان، وتسري الروح اﻹنسانية في الجسد الكوني.

الدينامية الدينية تقتضي أن تتوجه أنظار العلماء والفقهاء ورجال الدين، إلى تفعيل النصوص الدينية، بما يحقق الغايات الكبرى، وبما يمكّن، على المدى البعيد، من أن يُفهم الدين بمعناه الخيريّ والصلاحيّ وطاقته الموجِهة المبادرة الرائدة، لا بشعائره فقط.

أما أن تنشغل جمهرة من أصحاب القول الديني بالهامش وتنسى المتن، فذلك دلالة على انحراف الدين عن مقاصديته، وانزلاقه إلى التفاصيل، حتى أصبح الدين يغمر الحياة معاشاً ولباساً ونوماً وقياماً، فما من شاردة أو واردة إلا رصدها أولئك؛ حتى إنّ ما يتصل بالمرأة، فقط، من حبر الفتاوى، يكفي لتسويد بحيرة بأكملها، بينما لا نجد إلا ذكراً خجولاً وعجولاً ومرتجلاً للمشاكل الكبرى، وفي مقدمها الفقر، وكأنّ مصائر أكثر من 250 مليون فقير مسلم أمر ترفيّ لا يستوجب الانتباه.

قال خبراء قبل جائحة «كورونا» إنّ العولمة ساهمت في نشر الفقر وتدمير اقتصاد الدول النامية، وقوّضت مشاريع التنمية الاجتماعية التي كانت الدول تتكفّل بها. وها هو «كوفيد 19» يدمر ويفتك، وينهب ما ظل في نسغ الحياة من أمن وطمأنينة، وهنا تتجلى المشاريع التضامنية بين البشر أجمعين، بمعزل عن أديانهم، باعتبارها خشبة الخلاص الوحيدة، في عالم كشفت الجائحة عن الثقوب الكبرى في منظومته الأخلاقية.

هذه الوقائع وسواها، تغذّي بشكل أو بآخر خطاب التكفير الذي يرى العالم من ثقب فسطاطيْن رسم حدودهما أسامة بن لادن: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، أو دار الإسلام ودار الكفر.

ولكن، قبل نقض خطاب التكفير، يتعين تفكيك «خطاب الفقر» الذي قالت العرب إنه «مجمع العيوب» و«كنز البلاء». وقالت أيضاً: «ما ضُرب العبادُ بسوط أوجعَ من الفقر».