تشعّ ذاكرة «رمضان» بشموس تنبعث من زمن قديم، لعله أضحى غابراً، أو لعلنا أصبنا بداء الحنين العضال الذي أعطب الكينونة الحاضرة، ونهش سرديتها.
وأما الزمن الذي تحاول هذه الكلمات القبضَ عليه، فميدانه الهزيع المتبقي من القرن العشرين، وتحديداً في الربع الأخير منه، حيث البيوت لا تعرف التباعد الجسدي ولا التنافر الاجتماعي، وحيث مناوشات النهار تمحوها أول قطرة في الليل الذي هو بمثابة قطران على أهالي ذلك الحي المكتظ بآهات لاجئين تكدّسوا في بيوت الزينكو والصفيح، وأريد منهم أن يتأهبوا للحياة ومزاولة الحب والأمل.
في ذلك الزمن، كان «رمضان» حقاً رحمة. كان يبعث البهجة، وينثر الدهشة بسخاء على وجوه الفقراء، وخصوصاً الأطفال الذين ظلوا يستشعرون كأنّ «رمضان» شهر محبة خالصة، وعفو ينسحب على بقية الأيام والأشهر التي تتلوه.
وأكثر ما يلمع في الذاكرة من تلك الأيام هو الشراكة. لم يكن سكان المخيم قد درسوا في «هارفارد» حتى يعرفوا ما معنى أن تقتسم كلّ شيء مع جارك، ابتداءً من رشة الملح، وليس انتهاء بطبق الطعام الذي ينتظره الجار من دون موعد مسبق، فالمواعيد والخطط الخمسية لا تليق بالفقراء. إنهم يضبطون العالم على وقع مشاعرهم التي تصغي للأنين وهو يتسرب من بين شقوق الجدران المأهولة بالشكوى والرجاء.
وأستطيع أن أجزم أن سكان المخيم الذين ينوف عددهم على الخمسين ألفاً، كانوا في «رمضان» يفطرون ويتسحّرون بكامل أبّهتهم، كأنّ الرضى رفرف بجناحيه العظيمين فوق بيوتهم، وغمرهم بالسكينة. والرضى كان يرتدي لبوس العمل الخيري الذي يتصدى له فتية يعرفون خرائط الوجع والفقر المدقع، ويعلمون علم اليقين ما تحتاجه كل عائلة، فالمشهد مكشوف، وليس ثمة ما يمكن للمرء أن يخبّئه. ومن شيمة الفقراء أنهم يتقاسمون المساعدات، ويدلّون أهل الخير إلى بيت لم تكشفه الخرائط، لأن سيدة حديثة الترمّل لديها حمولة من الأطفال الصغار مات والدهم بغتة، تقعد وراء الباب، أسفل الشارع المطل على سيل جفّت مياهه العكرة.
في ذلك الزمن، كان يتجسد، في «رمضان» خصوصاً، الخير والرحمة. ففي آخر الليل، وتحديداً في العشرة الأواخر من الشهر الكريم، كانت البيوت تنتظر الطارقين، وقلما يخيب رجاؤها: يُفتح الباب أو شق منه، فيتلقى صاحب البيت التحية، مرفقة ببضعة دنانير لا يُعرف، على الأغلب، معطيها ولا مرسلها الذي يُشار إليه وحسب بـ«فاعل خير»، وما أكثر هؤلاء حين تعدّهم.
لا عسرَ مع فاعلي الخير، ولا مشقة. كان الفقر نبيلاً في ذلك الهزيع الأخير من الزمن المفقود الذي يتجلى الآن كفردوس ضائع، لأنّ آلية صناعة الخير وانبعاثه أصابها الخلل، ورانَ على قلبها الانتقائية وحُب الظهور، كأنّ اليد، التي لا تعرف ماذا أنفقت اليد الأخرى، قد بُترت، ودخلنا في غابة التوحش والجشع والأثرة.
ويتذكر الفتى الصغير الذي لم يكن قد تجاوز العاشرة، أن مسحّر المخيم، رفض صبيحة عيد الفطر أن يتقاضى عيدية من أسرة فقيرة، وأمام الإصرار أخذ المبلغ من الرجل الذي أقسم بالطلاق، ومنحه إلى طفل صغير من العائلة ذاتها قائلاً له بدعابة فيها لثغة محببة «كل عام وانت بخير يا عمي».
إلى تلك اللثغة المعجونة بصدق المشاعر يحنّ الفتى الذي أوغل في العمر. وفي الطريق إلى الحنين تتراكض الصور في مخيلته: صبيحة العيد، المراجيح الخشبية التي نصبت بارتجال في الأزقة الضيقة، طعم الخروب النائم تحت اللسان، والفرح الذي يتعربش سناسل البيوت، لأنّ «فاعل خير» أصغى لأنين مخنوق، ومنعه أن يتصاعد.
«ما نقص مال من صدقة» كانت تسير بخطى نشطة في الأزقة والحواري، فيتوارى حزن وينهض حلم، ويركض فتى يتيم بملابس جديدة وحذاء لامع يتحدى الساحة المتربة والغبار الذي يعلق أيضاً بياقة قميص اختارته أمه أن يكون ناصع البياض، فلعل الأيام تترفق بذلك البياض، وتصون ياسمينه من الخدش والأذى.