النزاعات تفترس الإقليم من حولنا، والحروب تأكل الأخضر واليابس، بعيداً عن الاستعارة، وبكل ما في الكلمة من معنى. لا أمل للعربي المطحون بين فكّي الفقر وانعدام الآفاق إلا أن يلوذ بالحلم الخلّاق. وليس المقصود بالحلم هنا «اليوتوبيا»، ولا التحليق في سماءات الميتافيزيقا، بل العيش بمقتضى الحاجات الضرورية التي تكفل العدالة والكرامة والاكتفاء، وذلك أقلّ القليل في عالم يهجس بحق الإنسان في أن يكون متعافياً من أرق الجهل والمرض والشيخوخة.

أن تحلم بغدٍ أفضل، يعني أن تشمّر عن ساعديك، وتمتحن إرادة العقل، وتدفع الأمور إلى نهاياتها، وليكن، كما قال روائي عربي، ما يكون. يعني أيضاً ألا تستسلم، وألا ترفع الراية البيضاء الملطّخة بالعجز.

وفيما تتناهب الكائنَ في الإقليم المشتعل هواجسُ اليأس من عقم الحلول ويباس الخيارات، تندلع كالنار العفيّة مشاريع تستفيد من تكنولوجيا المستقبل، وتتوخى حلّ معضلة نقص الغذاء والدواء، وتأمين مستقبل أكثر أمناً واستدامة للأجيال القادمة.

وكم أرّقتنا عبارة «الأجيال القادمة». فمنذ أن وَعينا على هذه الدنيا ونحن نسمع الأجداد يردّدون عن أجدادهم هذه التعويذة المليئة بالتفاؤل، ولكنها، في المقابل، العاجزة عن أن تتحوّل إلى فعل حقيقي يجعلها تسير على قدمين قويتين.

أما الآن، وعلى وقع عزيمة ثبت أنها لا تلين، ينبثق ضوء في آخر النفق الطويل، يأمل أن تستظل بنوره الأجيال القادمة، وهذا ما سيطر على تفكيري وأنا أحتضن حفيدي الفهد الوليد الذي راح، في غمرة من الاحتضان العاطفي الحار، يحدّق بي، وكأنه يذكّرني بـ«الأجيال القادمة»، فحار قلبي ماذا يفعل، ولاذ عقلي بالصمت المديد.

من حق «فهد» ورفاقه، ومن حق أبنائنا أن يسألوا عما فعلنا في الماضي، وما نعاينه في اللحظة الراهنة، من أجل صناعة مقاربة تليق بمستقبل عربي ذي أفق إنساني لا يرهق «الأجيال القادمة» التي آن لها أن تصرخ في وجوهنا وتقلب الطاولة على رؤوسنا إن رحنا نورثها الهزائم التي ورثناها جَدّاً عن جَد، وصارت كأنها جزء من جيناتنا. حتى علم الجينات يتطوّر: لا بد أن يصرخ الطفل الوليد، وهو يحدّق في عيني جدّه.

ورغم أنّ العقل يستبطن تشاؤماً عابراً للأجيال، إلا أنّ الإرادة المتفائلة تصنع الفرق، وهذا ما يستأثر باهتمام قادة سياسيين، يحاولون الابتعاد عن الحرائق، والتفكير الاستراتيجي الذي يضمن رخاء بلدانهم، ليس على مدى خطة خمسية أو عشرية، وإنما خطة تستشرف مئة عام مقبلة، ولا تترك للصدفة أن تسيّر السفينة الوطنية في محيط مظلم، كثير المفاجآت، فتّاك، عديم الرأفة، ولا تعالجه المسكّنات، وإنما الحلول الذكية المبدعة التي توقظ في الصحارى شجن الاخضرار.

ما زلت أحدّق في عيني «الفهد»، وعلى طرف شفتي كلامٌ أرجو ألا يذبل. كلام فيه وعدٌ وأقمار مستبشرة. كلام لا يسيل على السطوح ويستقر عند المنحدر، كلام ينأى أن يبني قصراً من وهم، لا يصلح للسكنى سوى لحظات، كما اعترف، ذات خيبة حميمة، الشاعر نزار قباني الذي وعد حبيبته بكلمات قلبت تاريخها وأنستها المرقص والخطوات.

نأمل، قبل أن تبرد نار الحماسة، أن نحمل لـ«الأجيال القادمة» الحَسَن من الظروف، والطيّبَ من المناخات، والعميقَ من الرؤى، والوفيرَ من عناصر الإنتاج، لنقول لهم بالفم الملآن والقلب الواثق من نبضه: «.. فامشوا في مناكبها».