منذ أن فتحتُ عينيّ على الحياة، وأنا أسمع أزيز الرصاص وهدير المدافع. كنت ابنَ عام واحد عندما اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967.

سُمّيت تلك الهزيمة «نكسة»، ربما لشحذ الهمم لما هو قادم. وكنت كلما أتى القادم، وترجّلت قليلاً، أصطدم بدخان الجثث المحروقة في كل مكان.

لم أهنأ من الحياة بهدنة أتفقد خلالها جراحاتي، وأحصي هزائمي، وأعدّ انتصاراتي التي تجسّدَ أكثرُها في غلوّ الشعارات والأدبيات الحزبية التي هدّدت بالويل والثبور وعظائم الأمور.

للحظة، أحسستُ أننا، كبشر في هذه المنطقة المسيّجة بالعواصف، منذورون للموت. نحن جئنا للحياة لنكون شهداء، وبالتالي أضحت الحياة معبراً خاطفاً نحو سدرة المنتهى. وجاء من بعد «مجاهدون» يقطعون رؤوس البشر الآمنين، ويجعلون من ذلك درباً اضطرارياً مقدساً، لإعلان دولة الخلافة، بعَلمها الأسود المرصّع بالجماجم.

سرقت الحروب والغزوات منا طعم العيش الرغيد. صرنا أحياءً على ذمة الموت الذي يأتيك من حرب خاطفة، أو رصاصة طائشة، أو من جار يسكن معك في الحي واكتشف، بغتة، أنّ اسمك في جواز السفر يخالف الأسماء التي تتداولها الطائفة.

أكل الشعارُ الأخضرَ واليابس من حياتي. صرت أهتف مع الحشود، وأرفع مثلهم الرايات، وأشعل الإطارات لبناء الحواجز والمتاريس، ولكنّ الخسارات كانت تتوالد، فتقضم ما ظل من البلاد التي خرجت أمس من المذبحة، وتنتظر حرباً جديدة وقودها ما تبقى من ذخيرة بشرية منذورة للهلاك، أو لحفلة الشواء الجهنمية. ماذا نفعل بهذا الفائض المحشور في مدارس وكالة الغوث، يتساءل الرجل المدجّج بالكلاشينكوف، والمختبئ خلف قناع أسود ولحية طالت حتى بان قليلٌ من أبيضها.

خمسة وخمسون عاماً أمضيتها محبوساً في الخنادق، وتحت الأنقاض الرطبة، وكنت طوال هذه المدة أشتاق لساعات النهار، لأنني حينها سأكون في مأمن من الغارات المدمرة التي يصهل شرارها في الليل، فيضيء المساكن الفقيرة والجروح الطرية والعظم الذي هرسته قذيفة.

هذا أنا الطاعن في الحرب، والمطعون بغياب الأمل من قدرة البارود على صناعة الفرح، أجهش في الرجاء أنْ كفى. كفى صواريخ، سواء كان ثمنها مليون دولار، أو 300 دولار. لا تهمني دقة التصويب، ولا قدرة التدمير. تهمني مدرسة تُبنى، ومستشفى يشيّد، وملعب بلدي، وحديقة، ومسرح، ومقهى يلتقي فيه عاشقان دون أن يسيل دم الشرف العربي على الطاولة.

سأنحني لصواريخ السوشيال ميديا التي أثخنت الخصم وأصابته بالهلع. ولكن قلّي أين ينام أطفالي في الليلة المقبلة، وفي أي عراء تعجن زوجتي الخبز، وتعد الإفطار للضحايا؟ لا بأس سأتخذ اليافطات وسادة وغطاء، فهي تكفي لأشعر بدفء لذيذ، ولكن من يصنع لي دفء المستقبل. من يجلب لي الأمان. من يعصم دمي من أن يسفك في الجولة التالية من تجربة صواريخ «كورنيت» المضادة للدبابات؟

أليس من الممكن أن نتفاهم يا سيدي الجنرال. هل تأذن لي بأن أسألك إن كان ثمة مشكلة في أن ينام أطفالي بهدوء ولا تراودهم الكوابيس، وأن يكون بلدي في الوقت نفسه سالماً مزدهراً مضاءً بالكهرباء، يذهب الطلبة فيه إلى المدارس، ويتمسكون بالحق التاريخي، ويردّدون النشيد الوطني، ويزرعون زهرة الأمل أسفل السارية؟

ربما تتصوّر أنني متخاذل ومهزوم لأنني أفكر بواقعية، وخارج منظومة القطيع المشغولين جلّهم بالثرثرة الوطنية حول معنى «الانتصار». لا بأس.

دعني أقول لك متى ننتصر..

ننتصر عندما نهزم الخوف ونتحرّر من الإذعان لمشيئة الآخرين وإكراهاتهم.

ننتصر عندما يتبلور الإنسان في داخلنا، ونفكر خارج صندوق الحشود الغفيرة، فنجعل حبة الدواء أهم من قذيفة الكاتيوشا.

ننتصر عندما يكون قرار الحرب والسلام بأيدينا، ويتخذه مجلسنا التشريعي المنتخب بنزاهة، فلا نخوض الحروب نيابة عن الآخرين، ولا نهدي نصرنا «الإلهي» إلى أحد.

ننتصر عندما نتغلب على أوهامنا، وندرك أنّ مسار التاريخ لا يتم اجتيازه بالتناحة والرغبات والعربدات، والغيبوبة عن إدراك توازنات الصراع، وكلفة الدم.

ننتصر عندما تتحول أفكارنا عن العزة والكرامة والكبرياء إلى مشاريع للبناء وصيانة الغد، وضخّ الأمل في روح طفل فقدَ ساقه وعكازه ويقينه.

لقد حفرنا أنفاقاً، ولم نبنِ ملاجئ. لقد أبدعنا في صناعة الصواريخ والطائرات المسيّرة، ولم نؤمّن الكهرباء لمستشفى، فقل لي بربك، كيف ننتصر؟

 

* أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي