قديماً ترددت في الدراما التلفزيونية عبارة هزلية تقول: «إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا، فعليك أن تعرف ماذا يجري في البرازيل». وسيقت تلك العبارة دلالةً على ترابط الأشياء، وجدلية السبب والمسبّب، على أنّ ذلك تأويل كاتب هذه السطور، وليس ثمرة بنان مؤلف المسلسل ذائع الصيت.

الجدل حاضر في كل شيء. إنه الصراع الهادئ بين المدخلات والمخرجات، كما يقترح علماء التربية وخبراء الإدارة. إنك لا تجني من الشوك العنب. وإنك لا تستطيع أن تقنعني أن لديك شعباً متحضّراً ما دامت النساء في ذلك المجتمع يفتقدن للحضور الذي لا تصنعه المحاصصة و«الكوتا»، بل هو ابن الحاجة الطبيعية لمشاركة الجميع في صياغة مستقبل الجميع، بلا تفرقة، أو مزايحة ذكورية أنتجتها عصور من القهر والتهميش والحرمان.

لا يكفي أن نبقى نردد إنّ المرأة نصف المجتمع، ولا أن نشرّع الأناشيد ونحتفي بما قاله أراغون «المرأة مستقبل العالم». هذا كلام بهيج نديّ لمغازلة امرأة على حافة الحب، لكنّ الواقع لا يعترف إلا بالأفعال. أرني فعلك لأعرف من أنت. ألم يقل سقراط قبل أكثر من ألفيْ عام، وهو يخاطب شاباً أنيق الهندام والمظهر مزهواً بيفاعته: «تكلّم حتى أراك»؟

درّسونا في المناهج التي صاغت وعينا الأول: «ماما تطبخ، وبابا يقرأ الصحيفة». وكان ذلك أفدح أشكال التمييز الذكوري الذي تربّت عليه أجيال كثيرة استقرّ في وعيها أنّ هذا هو نظام الحياة، وأنّ التقسيم الاجتماعي للأدوار لا بدّ أن يمرّ من هذه القنطرة، وأنّ الأولوية للذكور، لأنهم شعب العائلة المختار. انظروا كيف يحتفي العالم بالمواليد الذكور ويزدرون الإناث. هذا ليس سقماً عربياً. إنه فيروس عابر للقوميات والثقافات والتاريخ.

ولكن، لا بأس. لقد تجرّعنا هذه المرارات في الماضي، وآن لنا أن نصفّي حسابنا مع ذلك الإرث الذي أعاق حركية النساء، ودبّ في قلوبهن الرعب، وزلزل يقينهن بأنفسهن، فبتن يوهمن أنفسهن أنهن قاصرات وعاجزات وذوات بِنية جسدية أقل شأناً، وأدنى تحمّلاً، وأضعف قدرة من تلك التي يمتلكها الذكور، وهذا ما أبطله العلم، ولكنّ أكثر الذكور لا يريدون أن يعلموا.

وإذ أتحدث عن الذكور، هنا، فإنني لا أقصد التصنيف الجندري البحت، وإنما أعني كل من يحمل فكراً ذكورياً، حتى لو كانوا من الإناث. ألم يُقَل إنّ المرأة عدو المرأة. وهل ثمة أقسى من ذلك؟

«نحنُ لا نولدُ بناتاً (أو صبياناً) إنما يجعلون منّا هكذا». على هذه الأطروحة تبني أستاذة علم النفس والفلسفة في جامعة فرانكفورت، أورزولا شوي، كتابها التأسيسي المهم «أصل الفروق بين الجنسين»، وفيه تتقصّى بالدراسة العلمية الطرقَ المختلفة التي يتبعها المجتمع في تربية البنات والصبيان، وفي مراكمة الفروق الاصطناعية بين الجنسين.

وتجادل المؤلّفة في كتابها، الذي ترجمه بوعلي ياسين (ويمكن تنزيله مجاناً عبر الإنترنت)، بأنّ كثيراً من الصفات، التي نعتبرها خصائص أنثوية أصيلة مثل العاطفة والاهتمام والأمومة «هي خصائص مكتسبةٌ وليست فطرية».

ولكي ندلّل على عمق الاستنتاجات التي آل إليها بحث شوي، لا يتعيّن أن نشرع في وضع قائمة بالنساء المشهورات اللواتي حققن مجد النساء، وأثبتن أنهن قادرات وملهمات وشديدات البأس وحكيمات لا تستولي عليهن المشاعر وتهيمن على قراراتهن.

فلينظر كلّ منا إلى أمه: هل هذه المرأة التي أنجبت هذا الشخص المعتدّ بنفسه، المتباهي بذكائه، هي سيدة عاجزة، مفتقرة لسمات الألمعية، ذات إدارة ضعيفة في تصريف شؤون منزلها، أم أنها امرأة ذات مسؤولية تنوء عن حملها الجبال الراسيات. وعلى هذا المثال يمكننا أن نقيس، ونقوّض وهم الخرافة التي وجدت في أكذوبة نقص النساء، وعجزهن مبرراً للهيمنة والاستبداد.

أعملُ في مؤسسة أكاديمية، مديرتي المباشرة فيها امرأة ناجحة حصدت قبل أيام جائزة «الفعالية المؤسسية». وترأس المؤسسةَ الأكاديمية امرأةٌ يشهد الجميع بالفرق الخلّاق الذي أحدثته في عملها. وفي سياق تدريسي الإعلام فإنّ الغالبية العظمى من طلبتي إناث لا يمرّ فصل دون أن يرصّعن القلب بإنجازاتهن الباهرة.

هذه ليست شهباً عابرة تلتمع ثم تختفي. إنها مجرّات فيّاضة بنور أزلي تحثّ النساء في العالم أن اتّحدنَ وزاحمنَ بإبداعكنَّ، وامنحنَ الكون قوة الرشد والاستقامة، بعد أن ظلّ عهوداً شاسعة يتوكأ على قدم واحدة.