ليس خطابي عن الحلم خطاباً ينصب على ما نراه في حالة النوم، فهذا أمر يعود إلى التحليل النفسي وتفسير الأحلام، بل أتحدث عن الحلم بوصفه تصوراً لعالم أرقى، عن الإنسان الذي يحلم بغدٍ أفضل، عن الجماعات التي تحلم بعالم سعيد، والمبدعون والمفكرون والفلاسفة والعلماء جميعهم يكتبون أحلامهم الكلية بوصفها أحلام الجميع. هذه الأحلام التي تتمنى عالماً أرقى هي أحلام يقظة، وكل أحلام يقظة هي في النهاية شكل من التفكير حتى لو كان بعضها غير واقعي، وأنا هنا أتحدث عن الأحلام التي تتميز بالواقعية، أحلام بواقع ممكن قابل للتحقق، فضلاً عن أن خطابي هذا موجه إلى قتلة أحلام البشر وهم كثير.
أتحدث عن أحلام اليقظة بوصفها أحلاماً واقعية، وليس عن الأوهام التي لا تربطها بالواقع أي روابط تذكر، والتي إذا ما تحولت إلى دافع للسلوك الجمعي أدت إلى دمار البلاد والعباد.
والأحلام الواقعية لا حدود لها، كم من الأحلام الواقعية صارت واقعاً، وأنجبت السعادة والفرح للبشرية كلها، فاكتشاف أدوية لمواجهة وباء السل والجذام، كان حلماً وصار واقعاً، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ومعروفة للقاصي والداني.
وأعلم أيضاً أن الكائن البشري الخالي من القدرة على الحلم، كائن يفقد جوهر إنسانيته، بل إن تقدمنا الإنساني ما كان ممكناً دون الحلم، من أحلام البيت، الذي حمانا من عاديات الطبيعة، إلى أحلام الخيال العلمي.
والحلم مغامرة العقل، مغامرة العقل في ارتياد العالم والمجهول معاً، حتى ليمكن القول: إن أهم ما يميز العقل المغامر هو الحلم، والحلم هو ميزة العقل المغامر، العقل المغامر هو الذي يدفع الإرادة للفعل، فكل الإبداعات البشرية التي أمدتنا بالسعادة لم تكن سوى أحلام، العقل الفاعل هو العقل الذي كلما رأى الواقع المعيش بكل صوره، تصوّر واقعاً أفضل في مخيلته.
وإذا ما صيغت الأحلام بالكلام، وتمكنت من وعي الناس وصارت هدفاً يسعون إليه، تحولت الأحلام شيئاً فشيئاً إلى واقع، وإذا ما تحولت الأحلام إلى واقع فإنها تموت، وبالتالي تدفعنا لنعاود الحلم مرة أخرى غير مكترثين باتهامات العقل الكسلان، بل قل: إن هزيمة الأحلام وانكسارها أمر مضر بالنفس البشرية، أكانت نفساً فردية أو نفساً جمعية.
وعلينا أن نميز بين خيال الناس العاديين، وخيال الكائنات البشرية السامية، لا شك في أن أحلام الإنسان العادي محكوم بعالمه الذاتي الضيق، الذي لا يتجاوز مصالحه الفردية، ولكن من حقه أن يحلم حلمه الخاص.
وكم تكون خيبة الأمل عند الناس كبيرة حين ترى صاحب الأحلام العظيمة والخيال المبدع وقد تحول إلى كائن عادي. كم ستكون خيبة البشر مؤلمة وهي ترى كائناً جاء به خيال المبدع والمرتبط بهموم الناس إلى قوة القرار، وقد تنكر للناس الذين اقتنعوا بالأحلام التي ألهبت البشر، ودفعتهم للفعل، بل وللموت من أجل الحلم، وإذا ما أردت أن أعرف الدولة الفاضلة فسأعرفها بتلك الدولة التي تحمي أحلام البشر، وتعمل معهم على تحقيقها، وتغذي، عبر اهتمامها بالناس، عقلهم بأحلام جديدة، بل إن الدولة التي تدمر أحلام الناس ليست دولة.
إن الأحلام العظيمة لا تنفصل على القيم العظيمة، فليس من الأخلاقي أن يكون حلمك على حساب أحلام الآخرين، وتدمير آمالهم، حتى الأحلام العلمية العظيمة يجب أن تكون على ترابط بحب أمنا الأرض، أما أن تكون هناك أحلام علمية دون السؤال عن مصير الطبيعة، فهذا يجعل من أحلامنا أحلاماً لا أخلاقية، فالحالمون باستعادة ماضٍ بائد، وحمل الناس على الخضوع لأحلامهم المستحيلة واستخدام العنف والإرهاب في سبيل ذلك، حالمون غير أخلاقيين.
كما أن حلم كل جماعة ليس مرتبطاً بالسعادة والإسعاد، حلم لا قيمة له.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني