يشير الإنسان، بوصفه مفهوماً مجرداً، إلى الإنسان الواقعي. والإنسان الواقعي هو ابن مجتمع، ابن أمّة، ابن لغة، ابن ثقافة، إنه فرد ذو مهنة، غني وفقير ومتوسط، هو أب وأم وطفل هو.. هو.. هو الكثير.
الإنسان هو سيد العالم الأرضي، إذاً هو قيمة القيم. وما كان لمفاهيم الحق والخير والجمال والتسامح والسعادة والحرية والحب أي معنى دون النظر إلى الإنسان بوصفه مركز العالم الأرضي.
هذا الوعي بالإنسان هو للبديهة أقرب، لكن الإنسان نفسه لا يصدر في سلوكه ووعيه من هذه البديهة. لماذا لا يلتزم هذا الذي يحوز القيمة العليا بما يليق بمركزية الإنسان؟
هناك ثلاثة عوامل ما زالت تطيح بمركزية الإنسان بوصفه قيمة القيم.
أولاً: صراع المصالح بين الجماعات والأفراد. إن أحداً لا يستطيع أن ينزع المصلحة من النفوس، ولهذا كان السؤال الملح: كيف لنا أن لا نحول دون أن تكون المصلحة سبباً للصراعات بين البشر؟
لقد خلق الإنسان سلطة الحق جواباً عن هذا السؤال، على الرغم من أن الحق لا يضاد الحق، غير أن البشر قد جعلوا من الحقوق نفسها ساحة صراع. وسلطة الحق هذه تعينت في قوانين تلجم الصراعات التي تقود إلى الإفناء المتبادل بين البشر، وتلجم أخلاق الطمع التي قد تبرزها المصالح التي تطيح بالحق. وليس هذا فحسب، بل جعل الحق المقونن جميع الناس متساوين في الخضوع له.
ثانياً: حروب الدول والجماعات، وبخاصة تلك الحروب التي تستند إلى أيديولوجيات القتل، فالحرب شر مطلق في نتائجها، وليس هناك أسوأ من الحروب بين الدول بدافع الاستحواذ على الثروة، وبخاصة الأرض.
ثالثاً: التعصب ورفض الاختلاف. والحديث يطول حول أصل التعصب وفصله، لكن التعصب هو اعتقاد بأفكار هي بالنسبة لصاحبها حقيقة مطلقة، وكل من يختلف مع هذه الحقيقة ليس له قيمة وجودية.
وهذا يعني نزع الاعتراف بالمختلف والاختلاف. ونزع الاعتراف بالمختلف والاختلاف تعصباً لا يقود إلا إلى ظهور جماعات إرهابية قاتلة أو إلى دول دكتاتورية فاشلة، وكلا الأمرين شر.
إذاً مكانة الإنسان ومركزيته تقوم على الاعتراف بحقه في التعبير عن وجوده دون أن يكون تعبيره عن وجوده مقدمة لنفي الآخر وعدم الاعتراف بحقه.
عدم الاعتراف بمكانة الإنسان يعني سلب الإنسان وجوده بوصفه ذاتاً تفكر وذاتاً فاعلة، وهذا هو معنى ضرورة أن تتحدد قيمة الإنسان ومركزية وجوده تأسيسياً على فكرة الحق.
هل هذا يعني، كما يعتقد بعضهم، أن الإنسان في دفاعه عن مكانته ومركزيته يجب أن يتحرر من خضوعه لأية سلطة كانت؟
الجواب: إن الحق، إذا ما صيغ إنسانياً، تأسيساً على قيمة الإنسان، وصار قانوناً، ومؤسسات، يتحول إلى سلطة يجب الخضوع لها، ويكون الخضوع لها واجباً. وهكذا نكون أمام سلطة الحق التي تكبح جماح شر الاعتداء على الآخر، لأن الاعتداء على الآخر ليس سوى، في هذه الحال، اعتداء على الحق.
ويصير الالتزام بالحق واجباً قانونياً وواجباً أخلاقياً، بل لم يتحول فعل القانون إلى واجب قانوني إلا لأنه انطوى على الجانب الأخلاقي. وإذا ما تحققت وحدة الجانب القانوني والجانب الأخلاقي في حياة البشر صار السلوك من وحي هذه الوحدة عادات حياة، والالتزام بها لا يحتاج إلى قرار، بل يتم بشكل عفوي. ولا يمكن تصور السلم الأهلي داخل المجتمع إلا بتحقيق وحدة الجانب القانوني والأخلاقي لسلطة القانون.
لا شك أن هذا لن يقضي على الاختلاف بين البشر، لكن قوة القانون تلغي إلى الأبد قوة العضلات واستطالتها في حل الاختلاف الذي يقود إلى خلاف أو تناقض بين البشر، فجميع الحروب الأهلية التي قامت وتقوم وستقوم بين البشر إنما مردها لغياب سلطة الحق التي تساوي بين سكان مجتمع من المجتمعات، وما يتولد عن هذا الغياب من اختلاف وتناقض قد يؤدي إلى صراع العضلات. وصراع العضلات يعني موت العقل الذي يفكر.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني