قضيت في الولايات المتحدة مؤخراً خمسة وثلاثين يوماً ما بين مدينة هيوستن في ولاية تكساس في الجنوب، ومدينة بوسطن في ولاية ماساشوستس. استعداداً للسفر حضّرت زوجتي كيساً قماشياً كبيراً وأخذت تجمع فيه كل العملات المعدنية، وخاصة من فئة الربع دولار، التي تجمعت لدينا من رحلات سابقة.

هذه العملات كانت في غاية الأهمية لأنها تستخدم في آلات انتظار السيارات، كما أنها تستخدم أحياناً لدفع رسوم الانتظار في المطارات، وفي أحوال منزلية فإنها السبيل إلى تشغيل ماكينات الغسيل والتجفيف، وفي أيام الجامعة فإن ماكينات الشاي والقهوة وشراء بعض الحلوى، وبعدها ما يعد وجبات خفيفة، يمكن شراؤها بهذه العملات.

كان قد مضى عامان على آخر الرحلات المطولة نسبياً إلى الولايات المتحدة، وربما كان متوقعاً لدينا أن يكون هناك تأثيرات زادت أو قلت على الاقتصاد الأمريكي نتيجة جائحة كورونا التي قلبت الدنيا على عقب.

ولم تكن توقعاتنا خاطئة فيما يتعلق بما يبدو من تراجع في الاقتصاد نتيجة الانكماش الكبير الذي سببه البلاء، فالمطارات تبدو نصف مضاءة، والخدمات فيها لنقل الحقائب باتت محدودة، والمولات فضلاً عن الارتفاع الهائل في الأسعار فإن كثيراً من أسواقها مظلمة، وساحات الغذاء فيها مغلقة، مع استبدالها بأكشاك على ظهر عربات تتيح بعضاً من الطعام.

ولكن ما لفت النظر كان أول الوقفات لانتظار السيارات التي لم تعد العملات المعدنية تنفع فيها، وما بات متاح هو الدفع عن طريق كروت خاصة يوجد عليها «بار كود» خاص بالشخص يسحب منه بقدر ما بقي فيه من أموال. البطاقات الائتمانية الأخرى مقبولة، وهي التي كانت ذائعة وحدها كبديل لاستخدام «الكاش» من النقود، وفي كل الأحوال فقد بات ما هو مدفوع ثلاثة أمثال ما كانت عليه من قبل. كانت المفاجأة التي واجهتنا أمام شقتنا في ضاحية ولثام بجوار بوسطن جبلا غير قليل من الصناديق التي تحتوي على الكثير من الملابس والأحذية ومعدات التجميل.

كان الأولاد وزوجاتهم والأحفاد قد تسابقوا للتسوق من خلال حسابات خاصة جرى التعامل معها من خلال أسواق خاصة لا جرى فيها تجول، ولا تذوق آيس كريم، وأحاديث مع بائع أو بائعة، أو انتقل فيها قرشا أو دولارا من يد إلى يد. «الكاش» كما فهمت بات أمرا مشكوكا فيه ولا يلجأ إليه إلا من كانت لديهم مشكلة كتلك التي تواجه هؤلاء الذين يعملون في غسيل الأموال أو تجارة المخدرات. لم يبق إلا التبادل الذي يجري بين حسابات رقمية صعدت وهبطت من خلال حسابات رقمية أيضا، فلا كان هناك أجر بين صاحب عمل وموظف، ولا كان هناك مدفوع بين بائع ومشترٍ.

كانت هناك عمليات «مقايضة» واسعة النطاق بين حسابات رقمية تجري بينها عمليات مقاصة مستمرة وتنتقل من حساب إلى آخر بمرونة فائقة. لم يكن هناك الكثير من التدخل الحكومي فقد قامت الشركات بالواجب وأضافت الضرائب والرسوم إلى تكلفة السلعة وثمن البيع.

لم تكن هناك مفاجأة عندما نشر معهد «بركينجز» بالولايات المتحدة مقالاً في 25 أغسطس المنصرم بعنوان «هل سينتهي عصر «الكاش»، وهل أمريكا مستعدة؟». لم يكن المقال يتحدث عن شيء ما سوف يحدث في المستقبل، وإنما يتحدث عن عملية جارية، فالتسوق لم يعد له صلة بالأسواق، وكذلك فإن كثيراً من الجامعات لم يعد لها صلة مباشرة بالتعليم، والأفلام لم يعد لها صلة بدور السينما، فكل هذه التفاعلات التجارية والخدمية باتت تحدث من خلال صلات رقمية من نوع أو آخر. الأمر الوحيد الذي يبدو أنه مستمر هو المطاعم التي استمرت وتوسعت في الواقع في تقديم الطعام بأشكال مختلفة ومتنوعة وفي الهواء الطلق.

وحتى في هذه المطاعم فإن لها بطاقات خاصة عليها «بار كود» يتم السحب منه والإضافة إليه من أرقام هنا وهناك. مقال «نهاية الكاش» المشار إليه يشير إلى بقاء تجربة «البتكوين» أو العملات الرقمية رغم التنبؤات الكثيرة بزوالها، وأكثر من ذلك فإنها أشارت إلى أن البنوك المركزية ربما تقوم هي الأخرى بإصدار عملات رقمية يجري استخدامها لتبادل البضائع والسلع والخدمات والمنافع. لم يعد هناك بد من العودة بكيس العملات المعدنية كما كان بعد نسيان المرور على البنوك لتغييرها، إذا كان ذلك ممكناً بالطبع!